المكتبة بقلم الريدي
أكتب هذه الكلمات في اليوم الأخير من شهر مارس 2020… كنا نعتزم أن نعقد خلال هذا الشهر احتفالا كبيرا ومبهجا كما تعودنا أن نفعل يوم21 مارس من كل عام احتفاءً باليوم الذي افتتحت فيه «مكتبة مبارك العامة» 21 مارس 1995… عقدنا احتفالا كبيرا في كل عام يحضره الأطفال والكبار وتشارك فيه مكتبات مصر العامة في المحافظات المختلفة وكنا نعتزم أن يكون احتفال هذا العام احتفالا استثنائيا باعتبار أنه يمثل العيد الفضي للمكتبة… كنا أيضا نعتزم أن نعقد مؤتمرا يوم 23 مارس عن دور المكتبات العامة في مسيرة التنوير في مصر، ووجهنا الدعوات بالفعل إلى عدد من الوزراء والخبراء المهتمين بمسيرة الثقافة والتنوير ليشاركوا في هذا المؤتمر الذي افترضنا أنه سيستمر طوال اليوم ثم نختتمه بجلسة اعلامية كبيرة، كنا نفكر ولكن الله كان يدبر… فجاء شهر مارس وبالكاد انقضى دون الاحتفال ودون المؤتمر. لا يعني مرور هذا الشهر دون احتفال أنه ليس لدينا ما يبعث على الأمل في أن نحتفل بهذه المناسبة في المستقبل القريب إن شاء الله… لدينا ما نعتز بتحقيقه عبر هذه الأعوام الخمسة والعشرين. جاء افتتاح هذه المكتبة «مكتبة مبارك العامة» في احتفال كبير ومشهود حضره رئيس الجمهورية الأسبق والسيدة الفاضلة سوزان مبارك صاحبة الدور الرائد في إنشاء هذه المكتبة وحضره رئيس الوزراء وكبار المثقفين في مصر، كما حضرت نخبة من المجتمع الألماني على رأسهم رينهارد مون الذي كان له دور كبير في تأسيس هذه المكتبة. في الحادي والعشرين من مارس 1995 لم تكن آمالنا في هذا اليوم تتجاوز جدران هذه المكتبة، كان أملنا أن تصبح هذه المكتبة مكتبة رائدة تمثل نموذجا لمستقبل المكتبات العامة في مصر، لم نكن نطمح أكثر من ذلك لكننا ما أن بدأنا حتى قررنا ألا نكتفي بأن تكون مكتبة وحيدة بل أن تصبح لها فروعا وبدأنا بفرع صغير في منطقة الزيتون وكنا نقول أن أول فرع لنا هو غصن الزيتون.كان هذا الفرع بداية مسيرة أخذتنا عبر الأعوام إلى مختلف أرجاء مصر شرقا في البحر الأحمر وغربا في الوادي الجديد شمالا في البحر الأبيض المتوسط وجنوبا حتى الأقصر أيقونة وادي النيل، وبالجهد المتواصل والإرادة الواثقة عبر الأعوام أصبحنا اليوم ثمانية عشر مكتبة وهناك مكتبتان أخريتان في طريقهما للافتتاح هذا العام… 20 مكتبة في 2020. أزعم أن هذا الإنجاز الذي شارك في تحقيقه مجموعة مؤمنة برسالة التنوير في مصر إنجاز جدير بأن نحتفي به حتى بيننا وبين أنفسنا… ليس لمجرد الاحتفال بعيد أتى بل لأننا نثق في أن هذه المسيرة ربما تصبح يوما بداية تحقيق أمل في إنجاز مشروع قومي كبير يهدف إلى أن تتحول المكتبة الوحيدة إلى ألف مكتبة لتكون هناك مكتبة لكل مائة ألف مواطن.. هذا هو الأمل أو بداية الأمل والقصة طويلة.
موعد مع القدر
كان هناك موعد مع القدر… توافرت كل العناصر اللازمة لميلاد مكتبة عامة في مصر يكون لها شأن يتجسد الآن في ١٨ مكتبة تمثل بداية لمشروع قومي للتنوير…
كانت هناك شخصية مصرية نافذة لديها رؤية تنويرية متمثلة في السيدة سوزان مبارك.. ولكن أين التمويل وأين الخبرة والقدرة على تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع المصري؟
وكان هناك بالمقابل شخصية ألمانية رينهارد مون رئيس مجلس إدارة مؤسسة برتلسمان الألمانية وصاحب ثاني أكبر دار نشر في العالم الذي قضى حياته العملية في عالم النشر وتبلور لديه شغف بالمكتبات العامة ولكن ما الذي يمكن أن يجمع بين هاتين الشخصيتين المصرية والألمانية… هنا جاء التدبير الألهي… موعد مع القدر.
كان السيد مون يعقد مؤتمرا صحفيا في بلدته التي نشأ بها في ألمانيا وأسمها جوترسلو متحدثا عن المشروعات الثقافية لمؤسسة برتلسمان ويذكر فيما يذكر أنه أقام مكتبة عامة في بلدته، كما أقام مكتبة أخرى في الجزيرة الأسبانية المعروفة مايوركا حيث يوجد له مزرعة وبيت ريفي… فإذا بصحفية مصرية كانت تحضر هذا المؤتمر تفاجأه بسؤال ولماذا لا تقيم مكتبة في مصر؟ وربما تكون قد أضافت أن مصر قدمت أول مكتبة للعالم في الإسكندرية، فإذا برينهارد مون يجيب بشكل تلقائي أنه مستعد أن يفعل ذلك لو تلقى دعوة من مصر ليناقش إمكانية إقامة هذه المكتبة.
تبادر هذه الصحفية المحبة لبلادها بالاتصال بالسفير رؤوف غنيم سفير مصر في ألمانيا آنذاك الذي يبادر بدوره بإبلاغ السيدة سوزان مبارك ويتلقى السيد مون الدعوة ويأخذ طائرته الخاصة ويذهب إلى مصر لمناقشة إمكانية إقامة هذه المكتبة.
في نفس الوقت كان هناك مبنى مطل على كورنيش النيل بالجيزة مملوك للدولة وظل مهجورا لما يقرب من ثلاثين عاما وعندما رآه مون قال أن هذا هو بيت القصيد.
وبدأت العجلة تدور حتى تم العمل على إنشاء مكتبة الجيزة العامة التي أصبحت مكتبة مبارك العامة يوم افتتاحها في ٢١ مارس ١٩٩٥ .
لقاء في برج العرب
[/vc_column_text]
في يوم من أيام صيف 1992 توجهت ومعي زوجتي فريدة من بيتنا في قرية الدبلوماسيين بالساحل الشمالي إلى برج العرب للقاء الرئيس مبارك وحرمه حسبما كان قد طلب مني قبيل مغادرتنا واشنطن قبيل انتهاء خدمتي الدبلوماسية.
قضينا مع الرئيس وحرمه حوالي ساعتين في جو بعيد عن الرسميات في كابينة الرئيس ذات الأسلوب البسيط والجميل في نفس الوقت، دار الحديث أساسا عن أمريكا وإلغاء الديون العسكرية وقضايا المنطقة وكان الرئيس مبارك متفائلا ويشعر أنه سيمكن التوصل إلى اتفاق مع رابين لحل المشكلة الفلسطينية… وفي ختام اللقاء سألني الرئيس عما أعتزم أن أفعله فأجبته بأنني أفكر في المحاماة وأعتزم أن أقضي أغلب الوقت أقرأ وأسمع الموسيقى، فنظر إلى وابتسم ودعا لنا بالتوفيق.
بعد هذا اللقاء ربما بسبعة أو ثمانية شهور اتصلت بي السيدة سوزان مبارك وأخبرتني عن مشروع المكتبة التي ستتولى اقامتها مؤسسة ألمانية كبيرة وأن جمعية الرعاية المتكاملة التي ترأسها ستكون طرفا في هذا المشروع بالإضافة لوزارة الثقافة. ذهبت للقاء الأستاذ سمير غريب مدير صندوق التنمية الثقافية وممثل وزارة الثقافة في المشروع والسيدة فينداو ومعها الأستاذ أحمد هلال المصري الألماني خبير المكتبات العامة وعلمت أن العمل قد بدأ بالفعل في المبنى الذي خصصه الرئيس لإقامة المكتبة وأنه طبقا للاتفاق ستقوم مؤسسة برتلسمان بتطوير المبنى وتأسيسه ودفع مرتبات العاملين لمدة ثلاثة أعوام بعدها تتولى مصر هذه المسئولية.
اقترحت تشكيل لجنة تمثل الأطراف الثلاثة وتتابع مراحل الإنشاء والتجهيز واختيار العاملين واقترحوا أن أتولى رئاسة اللجنة وهو ما كان. أصبح اختيار مدير المكتبة هو أهم الخطوات فكان مون يأتي بطائرته الخاصة ويحضر المقابلات مع المرشحين لمنصب المدير وتعرفت على الرجل الذي أصبح يحلم بإقامة مكتبة عامة في مصر وأتابع بإعجاب إدارته المقابلات مع المرشحين مستخدما خبرته العلمية الطويلة والناجحة لإقامة مكتبة عامة تكون منارة على النيل في مصر، وهو ما كان، وافتتحت المكتبة في احتفال بهيج في 21 مارس 1995وأصبحت رئيسا لمجلس إدارتها ويأتي مارس 2020 لنحتفي بعيدها الخامس والعشرين.
منارة على النيل
بينما كان المهندس المقاول ممدوح حبشي يقوم بإنشاء مبنى المكتبة وتألق فيه، كانت لمياء عيد إبنة الثلاثة والثلاثين عاما تشرف على تجهيزها. كونت فريقا من الشباب الذين تدرجوا مع المكتبة بعد ذلك فأصبح منهم المدير ونائب المدير وغيرهما ممن ذهب لتولي قيادة مكتبات بالخارج. أخذوا يصنفون مقتنيات المكتبة، عملوا بالليل والنهار بحيث جاء يوم 21/3/1995 لتكون المكتبة جاهزة للافتتاح…
تشكل مجلس الإدارة من تسعة أعضاء ثلاثة كنت من بينهم تختارهم جمعية الرعاية المتكاملة وثلاثة ترشحهم مؤسسة برتلسمان (رينهارد مون وبيتينا فينداو وأحمد هلال) وثلاثة يختارهم وزير الثقافة.
وفي الاجتماع الأول لمجلس الإدارة تقرر تغيير اسم المكتبة من مكتبة الجيزة العامة إلى مكتبة مبارك العامة، وأن تكون الرئاسة الشرفية للسيدة سوزان مبارك، كما اتفقنا على أن يكون العمل الذي يقوم به رئيس مجلس الإدارة والأعضاء عملا تطوعيا دون أي مقابل مادي.
ما أن بدأت المكتبة في العمل حتى لاحت بوادر النجاح وكان من أهم أسرار هذا النجاح أن المكتبة تقوم على مبدأ الاستعارة الخارجية وكان زوار المكتبة يتعجبون من حماس أمناء المكتبة في حثهم على أن يأخذوا خمسة كتب ويذهبوا بها إلى منازلهم للاستعارة الخارجية… لقد قررنا أن نتحرر من عقدة الخوف بالنسبة لضياع الكتب أو عدم اعادتها وعبر الأعوام الخمسة والعشرين الماضية كان متوسط الفاقد في الكتب اقل من 1%.
ولم تمر سوى عدة شهور حتى أصبحت المكتبة مكانا معروفا يرتاده الكثيرون… دور كامل للكبار يوجد به مكان لقراءة الدوريات المصرية والعربية والأجنبية التي يتشوق الكثيرون لقراءتها… مثل مجلة ناشيونال جيوجرافيك ومجلة «شئون خارجية» الأمريكيتين فضلا عن الدوريات المصرية والعربية والأجنبية. في نفس الوقت يوجد دور آخر للصغار تتوسطه قاعة للأنشطة… وعندما كنت أذهب للمكتبة وأدخل إلى مكتبي في نهاية الدور الخاص بالأطفال وأجدهم قد افترشوا الارض بعد أن لم تعد هناك أماكن خالية وأراهم منكبين على القراءة، كان هذا المنظر وحده كفيلا بأن يزيل أية شكوك عندي حول جدوى ما أنفقه من وقت وجهد في سبيل المكتبة، وفي الدور العلوي توجد قاعة المؤتمرات الواقعة على تراس يطل على النيل وهو من أجمل الأمكنة المطلة على نيل القاهرة.
أما فلسفة إدارة المكتبة فكان لرينهارد مون الذي حقق نجاحا باهرا كرجل أعمال دور رئيسي في صياغتها حيث اتخذت الأساليب الحديثة في الإدارة التي تستجيب لرغبات «الزبائن» أي الأعضاء والتي يلعب الترويج عاملا مهما فيها، وكذلك قياس أداء المكتبة بشكل دوري يشمل الزيادة والنقصان في عدد الأعضاء وخصوصا النشيطين منهم وعدد مرات دوران الكتاب ما بين الاستعارة والقراءة وعدد زوار المكتبة الذين يتوافدون ويأتون للتعرف عليها بقصد الاشتراك فيها وعدد الأنشطة الثقافية.
كان أول من دعوتهم لإلقاء محاضرة بعد افتتاح المكتبة عالما مصريا يعمل أستاذ بإحدى الجامعات المعروفة في كاليفورنيا، ولم يكن هذا العالم سوى الدكتور أحمدزويل الذي حصل بعد عدة أعوام على جائزة نوبل في الفيزياء…ثم جاء صديقي الدكتور فاروق الباز والأديب الأمريكي المعروف ريتشارد فورد ثم رئيس البنك الدولي جيم ولفنسون، وتوالت بعد ذلك اللقاءات والمحاضرات والاحتفالات، في العام الماضي 2019 خصصناه لأفريقيا حيث كان الرئيس السيسي رئيس الاتحاد الأفريقي وذهب وفد مشترك مع المجلس المصري للشئون الخارجية إلى مقر قناة السويس يوم 17 نوفمبر 2019 للتهنئة بمرور 150 عاما على افتتاح القناة وكان يوما رائعا.
وكثيرا ما التقى الآن بشخصيات من مهندسين وأطباء وغيرهم يخبروني بأنهم بدأوا مشوارهم الثقافي في المكتبة التي أصبحت منارة على النيل…
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row][/vc_section]
من أنتم…؟
افتتُحت المكتبة فى حفل بهيج فخيم وأقبل الناس عليها للإشتراك بها، ورأوا شيئاً لم يعهدوه من قبل؛ أمناء المكتبة يحثون الأعضاء على أن يستعيروا ويأخذوا الكتب معهم لقراءتها فى بيوتهم ثم إعادتها بعد فترة محددة.
تزايد الأعضاء بمعدل ألف عضو تقريبا فى كل شهر فبعد عام واحد أصبح هناك إثنا عشر ألف عضواً.
كان هناك بطبيعة الحال الداعمان الكبيران السيدة سوزان مبارك من مصر و السيد رينهارد مون من المانيا يدعمان المكتبة كل فى مجاله, لم نكن نطرق بابا الإ ونجده مفتوحاً
رغم هذا النجاح كانت هناك أيضاً مشاكل كان علينا أن نواجهها وأغلب هذه المشاكل تنبع من سؤال واحد لا توجد له إجابة شافية:
من أنتم…؟ هل أنتم كيان حكومى؟ فنجيب لا لسنا بالظبط كيان حكومى …فيأتى السؤال.. أنتم إذاً كيان ينتمى الى العمل الأهلى فهل أنتم منظمة غير حكومية؟ فنقول لا, لسنا منظمة غير حكومية و إن كانت الحكومة شريكا في إنشائنا وفى مسيرتنا وتدعمنا باستمرار فيأتى السؤال ما هى الجهة التى تمولكم وتدفع مرتبات العاملين؟ وما الجهة التى تشرف عليكم؟ نجيب أن الجهة التى تشرف علينا هى مجلس الإدارة وثلث أعضاء المجلس يعينهم وزير الثقافة والثلث الثانى تختارهم جمعية الرعاية المتكاملة, والثلث الأخير ترشحهم مؤسسة أهلية المانية هى مؤسسة برتلسمان, أما عن المرتبات فأعضاء مجلس الإدارة يعملون تطوعاً دون أى مقابل مادى, أما العاملون فيتلقون مرتباتهم من إدارة المكتبة التى تنص إتقافية إنشائها على أن تتولى مؤسسة برتلسمان تدبيرها.
ويأتى السؤال وهل الإتفاقية التى أنشئت المكتبة تنفيذاً لها هى إتفاقية دولية تم التصديق عليها فى مجلس الشعب؟ فنقول لا نعتقد حيث أن أحد طرفيها مؤسسة أهلية وليست دولة أو حكومة… وبالتالى لا تعتبر إتفاقاً دولياً يخضع لقانون المعاهدات الدولية ولكن المكتبة قامت وتم انشاؤها فى مقرِ مملوك للدولة ويتواصل التساؤل حول نقطة محورية وهى موضوع الهوية… من أنتم؟
ورغم أن هذا الحوار لم يعطل أو يعيق مسيرتنا بل واصلنا النمو والنجاح والإنتشار وأعدنا العهد الذهبى لمكتبات البلدية فى المحافظات… أنتشرت على البحرين الأبيض والأحمر وفى الدلتا والصعيد وفى الصحراء…
ولكن كان لابد من أن يأتى يوم تحسم فيه قضية الهوية خاصة أن العاملين فى المكتبة أصبحوا قلقين … ماذا سيحدث لهم بعد إنقضاء الفترة التى تدبر فيها مؤسسة برتلسمان مكافأتهم؟
ظلت قضية الهوية تحوم حولنا وحول عملنا وتؤرق العاملين وبالتالى تؤرقنى شخصياً وظلت القضية عالقة إلى أن جاء حسمها بصدور القرار الجمهورى رقم 49 لسنة 2006 المعدل بقرار من رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة رقم67 لسنة 2011.
التى تنص المادة الأولى من القرار على» أن مكتبة مبارك هيئة ثقافية ومركز إشعاع حضارى أنشأته وزارة الثقافة بالإتفاق مع مؤسسة برتلسمان الألمانية, ومقر المكتبة مدينة الجيزة وتكون لها الشخصية الاعتبارية وتتبع وزير الثقافة. ويكون لها إنشاء فروع فى مدينتى القاهرة والجيزة».
اما المادة الثانية تنص على «تهدف المكتبة إلى نشر الوعى الثقافى والحضارى وتيسير الاطلاع على الإنتاج الفكرى والمعرفى وتشجيع المواهب والقدرات المبدعة وتعميم الخدمات المكتبية المتطورة بكافة أشكالها وأنواعها وفقاً للمواصفات العالمية، كما تسعى المكتبة إلى أن تكون جسرا للحوار بين الثقافات ومنتدى لمناقشة قضايا المجتمع». أما القرار الجمهورى نفسه فهو قصة أخرى, وللحديث بقية.
الزيتون
الفرع الأول
ما أن انفضت احتفاليات الافتتاح وبدأت المكتبة في الاستقرار وأصبح روادها يتزايدون بالآلاف، وأصبحت أرى وأنا في طريقي إلى مكتبي الأطفال وقد ملأوا قاعات الأنشطة ثم افترشوا الأرض للقراءة وما يشيعه ذلك من بهجة وما أجده من متعة عند لقاء الأصدقاء على تراس المكتبة المطل على النيل عقب الندوات للتحادث والتسامر والحوار مع ممثلي وسائل الإعلام الذين حضروا لتغطية الندوات.
مع هذه الأجواء أصبحت أفكر في أننا لا يجب أن نقنع بمكتبة وحيدة بل علينا أن نفكر في الانتشار خارج نطاق المكتبة بالجيزة وأخذت أبحث عما إذا كانت هناك أماكن في القاهرة يمكن أن نستخدمها لإقامة مكتبات فرعية وتحدثت مع السيدة سوزان مبارك حول إمكان استخدام مبنى كان متاحا لجمعية الرعاية المتكاملة ولكنها لم تستخدمه وأبدت السيدة سوزان موافقتها على ذلك كما رحب رينهارد مون أيضا بفكرة إنشاء مكتبات فرعية واقترح أن نعقد اتفاقية تكميلية لهذا الغرض.
أرسلنا فريقا يمثل مؤسسة برتلسمان وصندوق التنمية الثقافية مع ممثل عن المكتبة وعاين الفريق هذا المبنى ووجده ملائما بعد تطويره واتفقنا على اتاحته للاستخدام كمكتبة فرعية لنا بشارع الرشاح بمنطقة الزيتون (شارع عمر المختار حاليا) بمساحة إجمالية ١٢٦٠ م٢.
وفي نفس الوقت بدأنا العمل على اعداد الاتفاقية التكميلية وتطوير المبنى ليكون مكتبة فرعية بالزيتون.
وابدى رينهارد مون استعداد مؤسسة برتلسمان لتكرار ما فعلته بالنسبة للمكتبة الرئيسية؛ تطوير المبنى وتجهيزه وإعداده ودفع رواتب العاملين لثلاث سنوات. وتم توقيع الاتفاقية التكميلية بواسطة كل من الوزير فاروق حسني وزير الثقافة ورينهارد مون رئيس مؤسسة برتلسمان.
استغرق العمل في إعداد المكتبة الفرعية بالزيتون وتزويدها بالكتب واختيار فريق العاملين بها حوالي العام والنصف. تم اختيار موعد ٢٣ مارس ١٩٩٩ للاحتفال بافتتاح الفرع أي في العيد الرابع لإنشاء المكتبة الرئيسية وكان احتفالا بهيجا وجميلا وإن لم يكن بطبيعة الحال مماثلا لافتتاح المكتبة الرئيسية.
كانت السيدة سوزان مبارك هي راعية الاحتفال وجاء رينهارد مون بطائرته الخاصة من ألمانيا ومعه زوجته وعدد من مساعديه كما حضر الاحتفال لفيف من الشخصيات المصرية المهتمة بالشأن الثقافي والاجتماعي من بينهم محافظ القاهرة الدكتور عبد الرحيم شحاتة.
لم تمر إلا أيام معدودات حتى جاءني خطاب من الدكتور عبد الرحيم شحاتة محافظ القاهرة استوحاه من إنشاء مكتبة الزيتون يبلغني فيه أنه قام بتخصيص قطعة أرض على مساحة حوالي ٤٠٠٠ متر مربع لإقامة مكتبة فرعية ثانية بالعاصمة وذلك في منطقة الزاوية الحمراء وكان ذلك تحديا جديدا لنا في الوقت الذي كان إضافة هامة لمسيرة منظومة مكتبات مصر العامة وكان الموقع الذي اختاره د. شحاتة قطعة أرض تؤرقه لأنها أصبحت تستخدم لألقاء القمامة بها وأراد الرجل أن يحول هذه المشكلة إلى ميزة بأن تقام عليها مكتبة عامة تخدم المنطقة خاصة أن بها عددا من المدارس.
كان فرع الزيتون كالحجر الذي ألقى في الماء فأحدث دائرة وتأتي بعد هذه الدائرة دائرة أخرى أوسع ودائرة أخرى وهكذا.
كان فرع الزيتون هو الذي فتح الطريق إلى منظومة بلا نهاية من عشرين مكتبة في العام الحالي أي عام ٢٠٢٠
أما قصة هذه المنظومة فهي قصة أخرى
الانتشار في أرض الكنانة
شيء ما في جينات هذه المكتبة يجعل كل إنجاز تحققه يقود إلى انجاز آخر. ما أن افتتحنا الفرع الأول بالزيتون بمحافظة القاهرة حتى بدأنا نفكر في الانتشار على أرض الكنانة كلها، فكانت هذه المنظومة المنتشرة في أربعة عشر محافظة.
كانت السيدة سوزان مبارك هي الداعم الأكبر في تحقيق هذه النقلة النوعية الكبيرة…أما مؤسسة برتلسمان فكأنها كانت قد اكتفت بدورها الهام في إنشاء المكتبة الرئيسية وزادت عليها دورها في إنشاء فرع الزيتون.
تبين أن علينا أن نبحث عن صيغة أخرى لإطلاق مشروع قومي لانتشار شبكة من المكتبات على أرض الكنانة. كان المهم أن نجد حلا لمشكلة التمويل، وهنا تذكرنا مكتبات البلدية التي انتشرت في عواصم المحافظات في النصف الأول من القرن الماضي حيث تتولى المحافظات نفسها إنشاء هذه المكتبات والإنفاق عليها، وهو بالمناسبة ما يجري في كافة أنحاء العالم حيث تقوم المحليات بهذا الدور وتتضمن ميزانياتها بنودا خاصة بالمكتبات العامة بها، ولكن في حالتنا سيظل على مكتبة مبارك العامة أن تتحمل العبء الفني خاصة لأننا نملك النموذج الذي أثبت نجاحه ونريد تعميمه في كافة ربوع مصر.
تحدثت مع السيدة سوزان مبارك التي كانت أصلا مقتنعة بالفكرة واتفقنا على أن نبدأ بعقد اجتماع في المكتبة يدعى له كل محافظي مصر وحددنا يوم ٢١ يونيو عام ٢٠٠٠ لهذا اللقاء الذي حضره الوزراء الثلاث المعنيون بإنجاح المبادرة؛ وزراء الثقافة والتنمية المحلية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وحضر الاجتماع جميع المحافظين باستثناء محافظ واحد كما دعونا عددا من رموز المجتمع المدني.
كان أمام كل من الحاضرين ملف يشرح المبادرة، وتضمن الملف الدراسات التي كنا قد أعددناها عن المواصفات المطلوبة والعناصر الأساسية في نموذج المكتبة الذي نريد تعميمه وتحدثت السيدة سوزان مبارك حديثا أوضحت فيه أهمية المكتبات العامة ثقافيا واجتماعيا وهو ما تبين من نموذج المكتبة الرئيسية ثم دعت المحافظين إلى العمل على إنشاء مكتبات عامة في محافظاتهم على غرار نموذج المكتبة الرئيسية ثم تحدثت بدوري وأوضحت أننا سنكون مع إنشاء كل مكتبة إقليمية خطوة بخطوة طوال مراحل المسيرة وستكون هناك بإذن الله شبكة تضم هذه المكتبات ويجرى التعاون والتفاعل بينها وبين المكتبة الرئيسية. أضفت أننا قد وقعنا اتفاقا مع وزير الاتصالات لتزويد المكتبة الإقليمية بكل ما يلزمها من أجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات وخبرة فنية.. الخ واختتمت كلمتي بالقول…
«عبر التاريخ كان ازدهار المكتبات تعبيرا عن ازدهار المجتمع فكانت مكتبة الإسكندرية أم المكتبات هي منارة العالم منذ أكثر من ألفي عام، كما كانت مكتبات العالم الإسلامي سواء في القاهرة أو بغداد أو الأندلس مزدهرة عندما كانت هذه المدن تعيش أزهى عصور الحضارة العربية والإسلامية
وفي مصر ارتبط أنشاء دار الكتب بالنهضة المصرية الحديثة وفي قاعاتها وبين خزاناتها عكف الكثيرون ممن ساهموا في إنشاء هذه النهضة…. وفيها تفتحت مداركهم كما انفتحت أمامهم آفاق جديدة في المعرفة من علوم وآداب وفنون وأن ذلك هو ما نريد أن نحققه اليوم في كافة ربوع مصر…»
ثم دار نقاش عام ورددنا على بعض الاستفسارات وخرجنا من هذا الاجتماع بروح من التفاؤل بأنه قد يكون فعلا نقطة الانطلاق في المشروع القومي الذي كنا نحلم به.
كان من حسن الحظ أن وفقنا الله إلى مدير جديد للمكتبة كان متحمسا للمشروع وهو الدكتور موريس أبو السعد الذي قام بدور هام في تنفيذه، واخترنا لمهمة المنسق بين المكتبة الرئيسية والمكتبات الإقليمية واحدا من أبناء الرعيل الأول لفريق العاملين بالمكتبة وهو الأستاذ رياض رضوان مدير المكتبة تلك الاثناء للمكتبة.
وفي أقل من ثلاثة أعوام كانت هناك طائرة رئاسية تقل السيدة سوزان مبارك والوزير فاروق حسني وأنا وهبطنا إلى الواحة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد بالصحراء الغربية لافتتاح باكورة المكتبات الإقليمية… وتلك قصة أخرى
الوادي الجديد
أولى المكتبات الإقليمية
قبل مضي ثلاثة أعوام من الاجتماع مع المحافظين حيث أطلقنا مبادرة المكتبات الإقليمية. كان موعدنا مع أول ثمرة من ثمار هذا الاجتماع في يوم جميل من أيام القاهرة في الخريف (16 أكتوبر عام 2003) أقلعت الطائرة الصغيرة وبها السيدة سوزان مبارك ووزير الثقافة الفنان فاروق حسني وكاتب هذه السطور.
لم تعلن المضيفة عن وجهة الطائرة فكل من بها يعرف أننا متجهون إلى واحة الخارجة بالوادي الجديد لافتتاح مكتبة «مبارك» وكان اللواء مدحت عبد الرحمن المحافظ في استقبالنا.
جرت مراسم الافتتاح التقليدية وأخذنا نتفقد المكتبة. تجمع المشتركون بالمكتبة من الصغار والكبار قد تجمعوا حول موائد القراءة في مكتبة حديثة مجهزة بكل ما تحتاجه من أجهزة كمبيوتر وآلاف الكتب على الرفوف. وأخذت السيدة سوزان مبارك تتحدث مع الأطفال كعادتها وتستمع إليهم وهم يقولون لها أنهم لم يروا البحر من قبل طوال حياتهم وأنهم يأملون أن يروه في يوم ما…
مكثت هذه الزيارة حوالي ساعتين لا أكثر ولكنها كانت تعني لنا الكثير؛ وضعنا أقدامنا على أول الطريق…
أول خطوة في رحلة الألف ميل أو رحلة الألف مكتبة التي أصبحنا نحلم(مكتبة عامة لكل مئة ألف مواطن)
لم تكن هي أول زيارة لي للوادي الجديد فقد جئت من قبل في صحبة الصديق المهندس محمد حواتر رئيس شركة استصلاح الأراضي وزرت المواقع الأثرية بالواحة… آثار فرعونية وآثار بيزنطية وآثار إسلامية وآثار قبطية…
عدد سكان محافظة الوادي الجديد حاليا حوالي ربع مليون نسمة في ثلاثة واحات، الخارجة حيث العاصمة والداخلة والفرافرة.
نجحت مكتبة الوادي الجديد منذ انشائها في تقديم خدمات مكتبية وثقافية هامة فهي كالعادة تحث المشتركين على الاستعارة الخارجية وتقيم الأنشطة والفعاليات الثقافية وتستقبل الرحلات المدرسية والزوار الذين يريدون أن يتعرفوا عليها حتى يشتركوا فيها، وأصبحت المكتبة بمثابة مركز ثقافي واجتماعي ونقطة للقاء أهل الواحة الجميلة. كان ذلك ما دعى أهل واحة الداخلة أن يطلبوا منا أن نقيم فرعا بها وبالفعل خصص المحافظ الحالي اللواء محمد الزملوط ثلاثة آلاف متر لهذا الغرض وسيذهب منسق المكتبات الإقليمية الأستاذ أحمد أمان لتفقد الأرض وتقديم النماذج التقليدية لإنشاء المكتبة وسيقود السفير رضا الطايفي مسيرة اتمامها ونأمل أن يسير كل شيء على ما يرام.
واحة الداخلة هي واحة استثنائية في جمالها وبها بلدة القصر ذات الطابع المعماري الإسلامي المملوكي والعثماني مما يرشحها لأن تكون محمية طبيعية.
وسيكون إنشاء مكتبة بالواحة الداخلة بمشيئة الله انجازا استثنائيا.
وسيتوقف إنشاء المكتبة على قيام وزارة التخطيط باعتماد المبلغ اللازم للإنشاء ثم تبدأ عملية التجهيز والتزويد بمساعدة صندوق مكتبات مصر العامة وكذلك اختيار المدير والعاملين بالمكتبة كما ستقوم وزارة الاتصالات برئاسة وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المثقف بالتزويد بأجهزة الكمبيوتر والبنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
أصبحنا متمرسين قي كل خطوة من خطوات المسيرة التي تتكرر في كل مكتبة من المكتبات التي تنضم إلى منظومة مكتبات مصر العامة.
كانت البداية في الوادي الجديد لمنظومة أراد الله لها أن تنمو وتنمو أصلها ثابت وفرعها في السماء.مرت الأيام والأعوام على افتتاح مكتبة الوادي الجديد ثم تتابعت الافتتاحات بعد ذلك كما سيرد في حديث المكتبة.
وقد درج صندوق مكتبات مصر العامة أن يعقد في كل عام اجتماعا لمديري مكتبات المنظومة بمقر المكتبة الرئيسية، وفي الأعوام الأخيرة بدأ يعقد هذه الاجتماعات في واحد من مقار المكتبات بالمحافظات، في عام 2019 في الأقصر وفي عام 2018 في مرسى مطروح وفي عام 2017 في المنيا. في هذه الاجتماعات التي ترأسها السفير رضا تقدم دراسات نظرية ومحاضرات وتجري مناقشات حول مسيرة كل مكتبة كما تتاح الفرصة لكل مدير أن يستفيد من تجربة المكتبات الأخرى وفي الاجتماع الأخير بالأقصر قدم الأستاذ أحمد أمان دراسة هامة بعنوان دليل الاجراءات التشغيلية لمنظومة مكتبات مصر العامة.
تتيح هذه الاجتماعات أيضا الفرصة للقاء المحافظين في هذه المدن حيث نطلب إليهم إنشاء الفروع كما حدث في الاجتماع الأخير بالأقصر حيث التقينا بالمستشار مصطفى ألهم وذهبنا لمعاينة فرع جديد لمكتبة الأقصر يجرى تنفيذه بمدينة طيبة الجديدة، كما وعدنا السيد المحافظ بإقامة مكتبات جنوب الأقصر في إسنا وأرمنت.
دخلت مكتبة مصر العامة ضمن دراسات علوم المكتبات في الجامعات كنموذج جديد للمكتبات العامة بمصر.
والواقع أن تجربة مكتبات مصر العامة في العمل الثقافي والتنمية المحلية يقدم نموذجا جديدا في العمل الثقافي والتنموي والاجتماعي في مصر.
ملاحظة أخيرة محافظة الوادي الجديد تستحق بواحاتها الثلاثة أن تكون على الخريطة السياحية بمصر لجمالها وقيمتها التاريخية والبيئية وجوها النقي الذي يصلح كوجهة سياحية شتوية.
مكتبة بورسعيد
كانت الثمرة الأولى لاطلاق مبادرة المكتبات الإقليمية هي إشاء مكتبة بالوادي الجديد بالصحراء الغربية.
كانت الثمرة الثانية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مدخل قناة السويس؛ في بورسعيد.
جاءت البداية من المحافظ وكان محافظ بورسعيد المثقف اللواء ا. ح. مصطفى كامل الذي خصص ١٢٥٠٠ متر على ساحل البحر لإقامة المكتبة عليها.
لم يكن صندوق مكتبات مصر العامة قد إنشئ بعد فوقع العبء على مدير المكتبة الرئيسية آنذاك الدكتور موريس أبو السعد ومعاونيه الذين ساهموا في وضع النظام الذي سارت عليه مكتبة بورسعيد حتى الآن، كما كان هناك تعاون من المجتمع الأكاديمي ممثلا في الدكتور عبد الستار الحلوجي عميد آداب بني سويف والدكتور مصطفى حسام الدين الذي كان استاذ المكتبات بآداب القاهرة.
تحدد يوم ٢٢ مارس ٢٠٠٤ متزامنا مع العيد التاسع للمكتبة الرئيسية لافتتاح مكتبة بورسعيد. حضرت بطبيعة الحال السيدة سوزان مبارك ووزير الثقافة فاروق حسني وكاتب هذه السطور.
كان لقاءً مبهجا وأصبحت مكتبة بورسعيد أولى منارات منظومة مكتبات مصر العامة على ساحل البحر المتوسط وعلامة هامة في بورسعيد بما تقوم به من أنشطة وندوات وورش عمل ودورات تدريبية وتشجيع الأعضاء على الاستعارة الخارجية … كما أصبحت الملتقى الثقافي للمدينة. وعندما كنت أذهب لزيارة شقيقتي الكبرى بشقتها ببورسعيد وأجلس في شرفتها المطلة على البحر وعلى المكتبة أرى الأعضاء والزوار يتوافدون عليها كنت بطبيعة الحال أشعر بالرضا في أننا أقمنا هذه المكتبة في تلك المدينة الباسلة والجميلة.
كانت بورسعيد أول مدينة أزورها في طفولتي بصحبة أبي في رحلة لا أنساها بالقارب البخاري «اللنش» عبر بحيرة المنزلة ثم بعد ذلك وأثناء الحرب العالمية الثانية ورواج النقل البحري بالسفن الشراعية حيث كنا نذهب في رحلة يومية في سيارتنا الصغيرة وتسير على شاطئ البحر بين عزبة البرج وبورسعيد (حوالي ٥٠ كم) الفنار على يميننا وبلاج الملكة نازلي على يسارنا وعندما تتعطل السيارة بسبب الغرز في مياه الشاطئ الرملية المختلطة بمياه البحر كان يتعين علينا أن ننزل من السيارة وندفع بها وتتكرر هذه العملية عدة مرات حتى نصل إلى كوبري الجميل ونكون بذلك قد وصلنا بالفعل إلى بورسعيد.
كانت بورسعيد تنقسم إلى جزئين حي العرب وطابعه مصري ريفي وحي الافرنج الذي لم أر له مثيلا في جماله ونظافته ونظامه إلا بعد أول زيارة لي لأوروبا… أمستردام عام ٥٨. دار الزمن دورة أخرى وذهبت لنيويورك في منتصف الخمسينات من القرن الماضي ووقع العدوان الثلاثي على مصر واحتلت القوات البريطانية والفرنسية مدينة بورسعيد في اوائل نوفمبر ٥٦ كنت أتابع أخبار المدينة الباسلة والمقاومة الشعبية التي جرت بينما كانت الأمم المتحدة تحتشد في أكبر حركة في تاريخها انتصارا لمبادئ الميثاق وارغمت القوات المعتدية على الانسحاب يوم ٢٣ ديسمبر ٥٦ وأصبح ذلك اليوم عيدا قوميا لبورسعيد.
في العام الماضي احتفلنا في المكتبة بمرور مائة وخمسين عاما على افتتاح قناة السويس يوم ١٧ نوفمبر ١٨٦٩ بحفل أسطوري أقامه الخديوي إسماعيل في المكان الذي أصبح فيما بعد مدينة بورسعيد وحضرته الامبراطورة اوجيني حرم نابليون الثالث بعد أن كانت أول من دخل قناة السويس من بورسعيد باليخت «النسر» وحضر هذا الاحتفال أمراء وسفراء وغيرهم من مصريين واجانب. في يوم ١٧ نوفمبر ٢٠١٩ ذهبنا بوفد مشترك من مكتبة مصر العامة والمجلس المصري للشئون الخارجية للاسماعيلية لحضور الاحتفال الكبير الذي أقامه الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس في هذه المناسبة التاريخية الهامة وكان حفلا عظيما عبرنا فيه الانفاق إلى سيناء وقمنا بجولة بحرية شاهدنا فيها القناة الجديدة.
أكتب هذه السطور وقد مرت ستة عشر عاما على افتتاح مكتبة مصر العامة ببورسعيد ونحاول إقامة فرع على الشاطئ الشرقي للقناة في بورفؤاد ونأمل أن تتكلل هذه المحاولة بالنجاح.
تحية لبورسعيد وشعبها الكريم ولكل من ساهم في إنشاء مكتبة بورسعيد ولادارتها ولكل العاملين بها.
مكتبة المنصورة
في الجزء السابق من حديث المكتبة تحدثت عن مكتبة بورسعيد واتحدث الآن عن مكتبة المنصورة، وفي الجزء القادم إن ش اء الله سوف اتحدث عن مكتبة دمياط وذلك حسب الترتيب الزمني لافتتاح المكتبات انطلاقا من إجتماع المحافظين يوم ٢١ يونيو عام ٢٠٠٠ (مكتبة بورسعيد ٢٠٠٥/٣/٢٢، مكتبة المنصورة ٢٠٠٥/٦/٢٦، مكتبة دمياط ٢٠٠٥/٨/٤).
جاء افتتاح مكتبة المنصورة يوم ٢٦ يونيو ٢٠٠٥ وكالعادة حضرت السيدة سوزان مبارك وكان المحافظ هو الدكتور أحمد سعيد صوان وجاء إنشاؤها حسب المواصفات التي قدمتها المكتبة الرئيسية؛ في أربعة أدوار فوق الدور الأرضي على مساحة ٦٠٠ متر مربع ضمن قطعة أرض مطلة على نيل المنصورة تبلغ ٤٠٠٠ متر مربع تضم قاعات للاطفال والكبار من بينها قاعة بها نسخة أصلية من كتاب وصف مصر العظيم الذي حرره ٤٠٠ عالم من بينهم ١٦٧ صاحبوا الحملة الفرنسية (١٧٩٨-١٨٠١) وانتشروا في جنوب مصر وشمالها وسجلوا آثار البلد العريق وكنوزها.
ورغم أن الحملة كانت كارثة عسكرية وسياسية لفرنسا وانتهت بالفشل الذريع وتدمير الأسطول في معركة ابو قير بالبحر المتوسط، الا أن ما سجله العلماء والمهندسون والفلكيون وغيرهم مثل إنجازا علميا هائلا خاصة مع عثور ضابط فرنسي كان يتجول في قلعة رشيد على هذا الحجر الذي الذي أصبح فيما بعد يعرف بحجر رشيد مفتاح اللغة الهيروغليفية؛ (موجود حاليا بالمتحف البريطاني في لندن) مما أسس لعلم المصريات Egyptology.
ظل العلماء يعملون لعشرين عاما بدءا من عام ١٨٠٢ فانتجوا عشرين مجلدا لكتاب وصف مصر ضم ١١ مجلد من الصور واللوحات والخرائط و٩ مجلدات من النصوص.
بعد افتتاح مكتبة المنصورة بحوالي عام صدر القرار الجمهوري لتنظيم مكتبات «مبارك» العامة ثم جاء المحافظ المثقف اللواء سمير سلام وقاد عملية تطوير كبيرة في المكتبة خاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات وخصص وزير الاتصالات آنذاك خبيرا من الوزارة هو الدكتور اكرام فتحي الذي قام بدور هام لتزويد مكتبة المنصورة بالبنية الاساسية لتكنولوجيا المعلومات وأجهزة الكمبيوتر وواصل د. اكرام هذا الدور في مكتبات مصر العامة الأخرى.
كان الاحتفال بالتطوير بمثابة افتتاح ثان للمكتبة ومنذ هذا الحين اخذت مكتبة المنصورة موقعها الهام في عاصمة الثقافة والعلوم في دلتا مصر خاصة بعد إنشاء جامعة المنصورة العتيدة وما حققته من انجاز كبير في مجال الدراسات الطبية بما جعل مركز الجامعة للكلى والمسالك البولية مركزا عالميا بريادة العالم الطبيب الرائع د. محمد غنيم.
أعادت مكتبة المنصورة العهد الذهبي لمكتبات البلدية التي انتشرت في الحقبة من الثلاثينات إلى الستينات وعندما نشأت المكتبة القديمة التي كانت تحمل اسم المكتبة الفاروقية، فإن نظام الاستعارة الخارجية كان معمولا به وأعادت مكتبة مصر العامة العمل بهذا النظام كجزء أساسي من فلسفتها وقصة نجاحها وقد درج على القراءة في مكتبة المنصورة الأديب الكبير الراحل أنيس منصور.
هذا وتحتل المنصورة موقعا فريدا في تاريخنا واكتسبت اسمها من النصر على ملك فرنسا لويس التاسع الذي جاء عام ١٢٤٨ على رأس أسطول كبير من ١٨٠٠ سفينة تحمل ٨٠ الف جندي وفارس بخيولهم ومصطحبا زوجته مارجريت دي بروفانس التي بقيت في دمياط بينما توجه هو مصحوبا باخوته الثلاث وعدد من البارونات والقواد إلى الجنوب بالقوات البرية قاصدا القاهرة إلا أنه تعثر في مياه الدلتا وترعها وقنواتها وانتهى الأمر بأن وقع اسيرا ومن معه حيث بقي بدار بن لقمان بالمنصورة إلى أن تم الصلح مع ممثلي الحاكم الأيوبي «توران شاه» مقابل فدية قدرها أربعمائة الف جنيه وجلاء الحملة عن دمياط وخرجت زوجته ومعها رضيعها «يوحنا» ابن الثلاثة ايام لتلحق بزوجها قبالة بوغاز دمياط بعزبة البرج.
وكان يوم الجلاء من دمياط هو ٨ مايو ١٢٥٠ ميلادية بما جعل هذا التاريخ العيد القومي لدمياط.
جسر الحضارة
مكتبة مصر العامة بدمياط
لم يكن ممكنا أن يذهب خيالنا ونحن نسير أيام الشباب على كوبري دمياط المعدني منتقلين بين ضفتي النيل أن هذا الكوبري سينتقل عائما في يوم من الأيام ليرسو على بعد حوالي مئة متر قبالة مكتبة مصر العامة بدمياط، ثم يأتي رئيس للجمهورية ليدشن هذا الموقع ويعقد به اجتماعا يضم العشرات من كبار رجال الدولة وأعيان دمياط وليصبح هذا الكوبري جسرا بين حضارة أوروبا التي صنعت الكوبري(وقت تشييد برج معدني يسمى برج ايفل) ليقام على ضفاف نهر السين بباريس، وبين حضارة مصر التي أعادت توظيف الكوبري المصري في لحظة عبقرية من تاريخ المحروسة.
شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر تطورا هاما في استخدام المعدن في أعمال انشائية مثل برج ايفل وكوبري قطار الصعيد حسبما كان يسمى آنذاك عندما افتتحه الخديوي عباس حلمي الثاني في الخامس عشر من مايو عام 1892 الذي كان يسير على خط «مفرد» لتتبين الحاجة بعد ذلك إلى خط مزدوج فينتقل الكوبري من امبابة إلى دمياط لا ليمر عليه القطار بل لاستخدام البشر والسيارات وليفتتح هذا الكوبري عام 1927 وليبقى في هذا الموقع حتى عام 2009 بعد أن يكون قد انشئ كوبري جديد لدمياط من الخرسانة.
في عام ٢٠٠٣ أعلنت الهيئة العامة للطرق والكباري عن مناقصة لبيع الكوبري المعدني وبالفعل تم البيع بمبلغ ١٧٠ ألف جنيه، وفي عام ٢٠٠٤ نقل محافظ دمياط الدكتور عبد العظيم وزير محافظا للعاصمة وجاء محافظ جديد تصادف أنه مهندس معماري وأيضا فنان فرأى في الكوبري المعدني الذي كان مازال قائما قيمة جمالية وأثرية كبيرة، كما تبين له أن هذا الكوبري يمكن أن يتكامل مع مكتبة دمياط العامة التي كان يطورها لتفتتح في عام ٢٠٠٥ في احتفال جميل. كان الدكتور محمد فتحي البرادعي الذي حصل على الدكتوراه في العمارة من كلية الفنون الجميلة بباريس هو المحافظ الجديد وكان أول ما فعله ان قرر رد مبلغ ال١٧٠ الف جنيه إلى المقاول الذي اشترى الكوبري ليصدر في عام ٢٠٠٧ قرارا باعتبار الكوبري أثرا تاريخيا يتحتم الحفاظ عليه ثم بدأت الأفكار تنمو وتختمر حول مستقبل المكتبة والكوبري معا وتصميم موقع جديد أمام المكتبة في مشروع فني ثقافي يتضمن تطوير الساحة الفاصلة بين المكتبة والكوبري على النيل لتقام فيها الفعاليات الثقافية ويستخدمها الفنانون التشكيليون.
تصادف أن كان هناك أيضا وزير للتعاون الدولي برؤية حضارية متمثلة في السفيرة فايزة أبو النجا فتحقق التمويل وبقى التنفيذ، وبدأت رحلة الإبداع في ثلاثة مراحل؛ التقييم والانتقال الى الموقع الجديد ثم إعادة التوظيف ومما يسر تنفيذ هذه المراحل الثلاث أن الأمر أساسا كان بيد المحافظ المهندس البرادعي الذي كان يدعمه كل من عرفه وعرف تجرده وقدرته على الإبداع والإنجاز معا، كان هو عراب التقييم واختيار الموقع الجديد وكذلك إعادة التوظيف أما مرحلة الانتقال فكان بطلها المهندس إبراهيم محلب رئيس المقاولون العرب.
تم إعادة التوظيف ليصبح الكوبري القديم ملتقى حضاريا مجهزا بأحدث وسائل التكنولوجيا… أما التأثيث فلم يكن هناك أفضل مما تقدمه مدينة دمياط صاحبة الشهرة العالمية في الأثاث.
في كل هذه المراحل كانت عملية انتقال الكوبري هي أكثر ما شدني عندما قرأت عن هذه الملحمة متكاملة الأركان… كيف عام الكوبري أو سبح ليرسو أمام المكتبة مع ميل في اتجاه مسقط رأسه امبابة بالجيزة. بعد دراسة مختلف البدائل استقر الرأي على أن يكون الانتقال من الموقع القديم إلى الموقع الجديد باستخدام قوة الطفو وبالفعل تم تجهيز ستة عشر عائمة تحمل الكوبري التاريخي وتمر به تحت الكوبري الخرساني الحديث بمسافة ٣٠ سم. في هذا اليوم جاء رئيس وزراء مصر آنذاك الدكتور أحمد نظيف، وعدد من كبار الشخصيات وشاهدوا هذه اللحظات التاريخية حتى رسا الأثر الفريد لتحتضنه مكتبة مصر العامة التي أصبحت منارة على نيل دمياط، وما أن استقر الكوبري في موقعه الجديد حتى بدأ استخدامه ليصبح مركزا للندوات واللقاءات الهامة مثل لقاء رئيس الجمهورية مع كبار رجال الدولة وأعيان دمياط يوم ٢٠٠٩/٨/٣ وفي هذا اليوم أعلن عن افتتاح جسر الحضارة.
وعندما دعوت أخي وصديقي الدكتور أسامة الباز رحمه الله لزيارة دمياط أصر المحافظ البرادعي على أن يعقد له لقاءً مع أهل المدينة التي عاش ودرس فيها حتى أتم دراسته الثانوية وأن يعقد هذا اللقاء في جسر الحضارة وكان أسامة متألقا في هذه الليلة بحديثه الطلي والبسيط في نفس الوقت، وهكذا سارت الندوات واللقاءات والاحتفالات ثم كان ما كان…
جاءت أحداث عام 2011 وتجمع أناس أمام المتحف المصري بالقاهرة يحاولون اقتحامه وآخرون يذهبون إلى المجمع العلمي الذي أنشئ في بداية القرن التاسع عشر ويضم بين جانبيه مئات المخطوطات والكتب النادرة ويلقون عليه قنابل المولوتوف.
وجاءت يد التخريب والتدمير إلى دمياط لتنال أيضا من هذا الأثر الفريد وتحولت لحظة الإبداع إلى لحظة ضياع وجاء ابن دمياط الأستاذ عبد اللطيف المناوي رئيس تحرير المصري اليوم ورأى ما رأى وكتب مقالا لا أنساه واصفا هذا الأثر الفريد بأنه تحول إلى خرابة.
أكتب هذه السطور بطبيعة الحال بقلب حزين ولكنني ولأنني أومن بأن روح مصر العبقرية والمبدعة ستنتصر يوما في القريب حتى لا تكون لحظة الضياع هي مشهد الختام، فإنني أناشد وزير الآثار والسياحة الدكتور خالد العناني أن يتبنى انقاذ هذا الأثر ليكون شاهدا كما جرى في مواقع خربت ثم أعادتها الإدارة المصرية إلى ما كانت عليه رمزا للتاريخ والثقافة والفن وحفظ التراث.
مكتبة دمياط
كان افتتاح مكتبة مصر العامة بدمياط شيئا مفرحا لي ليس فقط لأنها جزء من مسيرة مكتبات مصر العامة وأسعد دائما بافتتاح اية مكتبة تنضم إلى منظومتها ولكن أيضا لأن دمياط تعني لي الكثير؛ هي المدينة التي قضيت أحد عشر عاما أغادر كل يوم منزلنا بعزبة البرج في الصباح المبكر لأذهب إلى المدرسة الابتدائية ثم الثانوية اللتين يضمهما مبنى واحد.
نقطع المسافة على الطريق الترابي (14 كم) إما بالسيارة أو سيرا على الاقدام أو بالمركب الشراعي حسب أحكام الجو والمطر الذي كان يسقط كثيرا بالشتاء في المدن الساحلية قبل التغيرات المناخية التي أدت إلى ارتفاع درجة الحرارة في العالم.
بدأت الدراسة وأنا ابن السبعة أعوام ثم ختمتها وأنا ابن السبعة عشر عاما، وفي هذه الفترة تفتحت مداركي وبدأت أتعرف على أحوال مصر بل والعالم وأشارك بالنشاط الطلابي واكتشف ميولي التي أخذتني إلى كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن).
كان محافظ دمياط الذي بدأ مشروع المكتبة الدكتور عبد العظيم وزير هو الذي حضر اجتماع يوم ٢١ يونيو عام ٢٠٠٠ الذي انطلقت منه مبادرة المكتبات الإقليمية.
اختار الدكتور وزير موقعا ممتازا على نيل دمياط لإقامة المكتبة، ثم ينقل الدكتور عبد العظيم محافظا للقاهرة في عام ٢٠٠٤ ليخلفه الدكتور مهندس محمد فتحي البرادعي الذي طور المكتبة ورعاها، ثم أضاف إليها جسر الحضارة الذي حكيت عنه بالحلقة السابقة.
نزلت مع الفنان الوزير فاروق حسني والدكتور زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار آنذاك بفندق بوريفاج القريب من منطقة اللسان وبوغاز دمياط وكانت تلك أول مرة يرى فيها فاروق حسني رأس البر فأخذ يتحدث عن رحلته في اليوم السابق على طريق بورسعيد- رأس البر، وكم كان مبهورا بالمنظر الفريد للسماء وقت الغسق والسحب ذات اللون البرتقالي الفريد ومنظر الصواري المشرعة على سفن الصيد الشراعية ببحيرة المنزلة التي كان الطريق يشقها بينما البحر على يمينه.
توجهنا من رأس البر إلى دمياط لحضور حفل افتتاح المكتبة وجاءت السيدة سوزان مبارك بالطائرة وتفقدنا المكتبة ذات الأربعة أو خمسة أدوار إذا احتسبنا الرووف.
المكتبة مقامة حسب المواصفات التي وضعتها المكتبة الرئيسية من واقع خبرتها لمدة عشرة أعوام بفلسفتها التي تبلورت وأثبتت نجاحها وبما تضمه من بنية أساسية لتكنولوجيا المعلومات وأجهزة الكمبيوتر والتي جاءت تنفيذا للاتفاق مع وزير الاتصالات، أما أثاث المكتبة البسيط والعملي فهو بالأيدي والخبرة الدمياطية المعروفة، وكعادتها أخذت السيدة سوزان مبارك تتحدث مع الأطفال والعاملين والعاملات بالمكتبة.
ومن افتتاح المكتبة إلى رأس البر مرة أخرى بالضفة الغربية لدمياط وشمالا إلى منطقة اللسان تحديدا، حيث أقام المحافظ المهندس البرادعي برؤيته المستنيرة رخامة تسجل مسيرة النهر الخالد من المنابع بأفريقيا الاستوائية وهضبة الحبشة ليلتقي النيل الأبيض مع النيل الأزرق في نهر واحد في الخرطوم بالسودان ليقطع الرحلة حتى يصب مياهه في البحر المتوسط حيث كنا نقف على اللسان.
والواقع أن هذه البقعة ليست فريدة فقط لموقعها الجغرافي حيث تمتزج مياه النيل بالبحر، بل أيضا بما توحي به من وقائع التاريخ والغزوات التي تعرضت لها مصر عبر العصور وما تمثله من دراما التاريخ.
أعد المحافظ البرادعي أيضا معرضا مصورا لرأس البر «أبام زمان» عندما كانت المدينة يتم تركيبها في مدخل كل صيف ثم تفكيكها في مدخل الخربف ثم تخزين القوائم الخشبية وألواح الأرضيات والأكياب والبوص التي تتكون منها «العشة» وهذا هو الاسم الذي يطلق على المنزل برأس البر.
بينما نتفقد معرض «رأس البر زمان» تأتي سفن الصيد ويلوح الصيادون لنا بالتحية بينما يعبرون البوغاز دخولا أو خروجا إلى عزبة البرج حيث يقف فنار دمياط الشهير.
كانت رأس البر هي الجزء الوحيد الذي به إعمار بالضفة الغربية بالنيل حتى جاءت حركة التعمير الكبرى بهذه المنطقة في أعقاب حرب اكتوبر المجيدة، وكان المهندس حسب الله الكفراوي ابن دمياط وزميل الدراسة هو الذي نفذ حلما مصريا قبل أن يكون حلما دمياطيا ببناء ميناء جديد بعد أن أصبح الميناء القديم غير صالح للسفن الكبيرة وتم اختيار الموقع على بعد نحو عشرة أميال غرب رأس البر وسرعان ما يصبح الميناء واحدا من أهم موانئ مصر وخاصة بمجال الحاويات، ثم تتكامل مع الميناء مدينة جديدة هي دمياط الجديدة التي تصبح المجال الذي تتوسع فيه المدينة القديمة عمرانيا وفي خلال عدة عقود تصبح دمياط الجديدة آهلة بالسكان حيث يقطنها اليوم أكثر من 150 ألف نسمة، وكان طبيعيا لمكتبة مصر العامة بدمياط العامة أن تفكر في أن يكون أول مكتبة فرعية لها بهذه المدينة التي افتتحت عام ٢٠٠٨ ونعمل الآن على توسعة هذه المكتبة وتطويرها لخدمة المدينة والمؤسسات التعليمية التي انتشرت بها.
وعندما طلب مني الوزير حسب الله الكفراوي بعد عودتي من واشنطن بصيف 1992 أن أرأس أول مجلس أمناء لها كان ذلك أول عمل تطوعي أقوم به لثلاثة أعوام بعد مشوار الدبلوماسية وكانت أكبر مكافأة لي أنني أذهب إلى رأس البر بعد جلسة مجلس الأمناء للقاء أسرتي لتكون رائحة البحر التي شببت عليها أول ما يرحب بي.
هكذا تمددت دمياط غربا وتواصلت مع محافظة الدقهلية بالطريق الساحلي على البحر المتوسط الذي يبدأ من العريش ويمر بدمياط ثم المدن الأخرى حتى مرسى مطروح.
هذا عن الجغرافيا والعمران ومكتبة مصر العامة بدمياط وفرعها بدمياط الجديدة… ويبقى التاريخ، ودمياط من أقدم مدن المحروسة وميناؤها أقدم موانيها وكان أهمها حتى مجيء محمد علي الذي اهتم بالاسكندرية وطور ميناءها وربطها بترعة المحمودية وأصبحت هي ميناء مصر الأول.
كتبت في الحلقتين ٩ و١٠ عن مكتبتي مصر العامة ببورسعيد والمنصورة وكلا المدينتين يرتبطان بدمياط التي تقع في منتصف المسافة بينهما.
كانت دمياط هي المدينة التي ذهب منها العمال عن طريق بحيرة المنزلة إلى المنطقة الساحلية التي أصبحت فيما بعد بورسعيد حيث تم شق قناة السويس من البحر المتوسط شمالا، أما المدينة الثانية المنصورة فقد كانت نشأتها نتاجا للحملات الصليبية التي تعرضت لها دمياط في منتصف القرن الثالث عشر والتي كان آخر مشاهدها خروج ملك فرنسا لويس التاسع بعد فك أسره (كما جاء في الحلقة ١٠ من حديث المكتبة)،وابحاره من البوغاز الذي كنا نقف بجواره على اللسان.
وهذه المدن الثلاث تمثل في رأيي ما أسميه «ثلاثية الشمال».
يتصادف أنني أكتب هذا الجزء من حديث المكتبة بينما يجري الاستعداد لافتتاح مكتبة عزبة البرج لتنضم إلى مكتبات مصر العامة التي ارتبطت حياتي بها منذ بدايتها طوال ربع القرن الماضي.
عزبة البرج هي بلدي رأيت فيها قرص الشمس يبزغ من بحيرة المنزلة ليتوسط السماء فوق نهر النيل ظهرا لأراه يسقط وقت الغروب رويدا رويدا في البحر حتى يتلاشى.
ودمياط هي عزبة البرج، كما أنها رأس البر ومرج البحرين بينهما، وهي بطبيعة الحال المدينة العتيدة وعاصمة المحافظة التي تحدها شمالا محافظة بورسعيد وجنوبا محافظة الدقهلية(المنصورة).
كانت دمياط يوم تولى محمد علي أهم الثغور المصرية وأعظمها تجارة… وكان بها حوالي ثلاثين ألف نسمة يوم كان تعداد الإقليم المصري كله أقل من ثلاثة ملايين، وكان عدد سكان المنصورة عشرة آلاف والإسكندرية ستة آلاف نسمة (دمياط منذ أقدم العصور، نقولا يوسف ص ٢٤٥)، وفي هذه البقعة تفتحت مداركي وتولدت أحلامي.
دمياط الموقع تبدأ من هذه النقطة العبقرية ملتقى النهر بالبحر أو مرج البحرين حيث تنتهي رحلة الستة آلاف وستمائة وخمسين كيلو متر لنهر النيل شريان الحياة من المنابع حتى المصب.
شهدت هذه المنطقة في القرن الماضي تطورا مفصليا اتصل بالموقع والتاريخ ويرتبط بفيضان النيل، سجلته في كتابي «رحلة العمر» ص 31
«كان فيضان النيل هو المتغير الوحيد الذي يأتي في شهر أغسطس من كل عام جارفا بقوة مياهه المختلطة بالطمي إلى البحر عبر المصب فيأتي الخير العميم في البحر والبر؛ يأتي السردين في جزر عائمة، ويأتي السمان في أسراب مهاجرة، وينضج البلح على النخيل. ما لبثت أن تغيرت هذه الظاهرة التي استمرت عبر القرون، ففي خلال عقد أو عقد ونصف أصبحت القوارب تعمل بالموتور وليس بالشراع… ودخلت الكهرباء إلى البيوت والمحال وجرت المياه في المواسير ثم –وهذا الأخطر- توقف الفيضان عن المجيء .بعد بناء السد العالي في أوائل الستينات».
شهد مدخل دمياط من البحر الكثير من مشاهد التاريخ ومن أهمها الحروب الصليبية التي استمرت في مجموعها لما يقرب من ثلاثة قرون، أما الحروب الصليبية في دمياط فيمكن القول بأن البداية كانت من عام 1169 أما النهاية فكانت في 1250.
تبين للإفرنج بعد أكثر من قرن من احتلالهم للعديد من المدن والقلاع في الشام الأهمية الجيوستراتيجية للعلاقة بين مصر والشام وأن مصر قد أصبحت حصن الإسلام الحصين فهي التي تزود المسلمين في الشام بالمدد في الأفراد والمؤن، فقر قرارهم على غزو مصر وإخضاعها.
كان خط الدفاع الأول عن مصر في الأبراج المنيعة على مدخل دمياط شرق وغرب النيل والسلاسل المتينة التي تربط بين الأبراج على الجانبين وتحول دون دخول السفن الغازية من البحر إلى نهر النيل لتصل إلى مدينة دمياط الواقعة على بعد أربع عشر كيلو متر جنوب المصب.
ليس المجال هنا كتابة تاريخ الحروب الصليبية لمصر فهناك المراجع الكثيرة في هذا الشأن، وأرشح للقارئ كتابين كتبهما كاتبان دمياطيان الأول أستاذ التاريخ الدكتور جمال الدين الشيال «مجمل تاريخ دمياط: سياسيا واقتصاديا» (75 صفحة)، وكتاب الأستاذ نقولا يوسف «تاريخ دمياط منذ أقدم العصور» (520 صفحة).
ما يسمح به المجال هنا هو أن أورد بعض اللمحات أو الملامح التي تشير إلى تاريخ دمياط الثري والمثير في نفس الوقت.
كانت بداية تحرك الإفرنج إلى مصر في عام 1169 م وكان صلاح الدين لا يزال وزيرا للخليفة الفاطمي العاضد.
وصلت إلى ساحل دمياط نحو ألف مركب تحمل مائتي ألف فارس وراجل نزلوا على البر الغربي (حيث رأس البر الآن) وحاصروا دمياط لثلاثة وخمسين يوما.
خرج صلاح الدين لمواجهتهم، بينما كان يناوشهم من الشام نور الدين أحد مؤسسي الحقبة الأيوبية فأصبح الفشل ماثلا لهم فقرروا فك الحصار والعودة من حيث أتوا بعد أن غرقت لهم نحو ثلاثمائة مركب كما تعرضوا لوباء فتك بكثير منهم.
بعد حوالي خمسين عاما وكان صلاح الدين قد نجح في استرداد بيت المقدس (معركة حطين الشهيرة) وعدد من مدن الشام وقلاعها، جاءت حملتان صليبيتان كبيرتان لم يفصل بينهما أكثر من ثلاثين عاما في النصف الأول من القرن الثالث عشر، كانت هاتان الحملتان بتاريخ تسلسل الحملات الصليبية هما الحملة الخامسة (1218-1221م)، والحملة السابعة في الفترة من (١٢٤٨-١٢٤٩).
الحملة الخامسة:
احتشدت الأساطيل أمام ميناء عكا بالشام من ملوك وأمراء الإفرنج بقيادة جان دي بريين صاحب لقب ملك أورشليم أي بيت المقدس، ثم جاء عدد من الملوك والأمراء بقوات أخرى من أوروبا بينما كانت مصر تحت حكم الملك العادل (اخو صلاح الدين) الذي كان بالشام ويتولى القيادة في مصر ابنه الكامل محمد حيث كان يعسكر في العادلية جنوب دمياط بحوالي ٨ كم .
جاء أسطول الإفرنج في 24 مايو 1218 في خمسمائة سفينة من بينها عدد من السفن الضخمة وعليها سبعون ألف راجل ونزلوا ببرها الغربي في شهر يونيو، وأترك الحديث هنا للدكتور الشيال:
«كان عند مدخل دمياط برج ضخم مشحون بالمقاتلة والسلاسل المعدنية المثبتة فيه تمتد منه إلى برج مقام على الشاطئ الغربي ليحول هذا البرج والسلاسل بين سفن العدو وبين العبور في النيل للوصول إلى المدينة وكان هذا البرج هو مفتاح دمياط.
قاوم البرج مقاومة عنيفة لمدة أربعة أشهر إلى أن بني الإفرنج برجا عاليا ضخما وأقاموه على سفينة كبيرة وتقدموا به تحت وابل من سهام المصريين وقاتلوا قتالا عنيفا إلى أن استولوا على البرج وهو ما سهل لهم الاستيلاء على مدينة دمياط، وعندما علم الملك العادل بذلك وهو في الشام دق بيديه على صدره متأوها ومرض من ساعتها وما لبث أن مات من حسرته بعد أيام»
أوردت هذا المشهد لأنه جرى على مدخل دمياط أي في عزبة البرج ورأس البر وفي الأغلب تكون عزبة البرج قد اكتسبت اسمها من هذا البرج ومن الأبراج التي شيدت قبله وبعده.
استمرت الحملة الخامسة بمشاهدها الدامية لأكثر من ثلاثة أعوام بما فيها احتلال دمياط حتى نصل إلى مشهد الختام.
بعد أن كان القتال بين الجانبين قد امتد لحوالي ستين كم جنوب مدينة دمياط في أشموم طناح أي حيث تم تشييد مدينة المنصورة آنذاك.
جري القتال على جانبي النهر ودمياط تحت الاحتلال حتى جاء تطور هام أدى إلى حسم المعركة لصالح الملك الكامل وتمثل هذا التطور الهام في فيضان النيل الذي كان فيضانا قويا هذا العام فحفرت قوات الملك الكامل القنوات التي ملأتها المياه حتى أصبحت قوات الإفرنج في الوحل محاطة بقوات المسلمين من كل جانب وجفت المؤن لديهم بسبب قطع الطريق على السفن الآتية من دمياط فلم يكن أمامهم سوى أن يطلبوا الصلح والتخلي عن دمياط والعودة من حيث أتوا في الشام وذلك دون قيد أو شرط، ووافق الملك الكامل على الصلح ودخل إلى دمياط في أبهة محاطا بأخوته وبالقادة معه وجاء الملوك الإفرنج وأطلق كل جانب رهائنه وأسراه، وتم الاتفاق على هدنة لثمانية أعوام، وهكذا انتهت الحملة الصليبية الخامسة بعد أن قضى الإفرنج في دمياط وعلى شاطئيها ثلاثة أعوام وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما.
الحملة السابعة:
بعد هذه الحملة بثلاثين عاما تقريبا جاءت الحملة الصليبية السابعة، وإذا كانت الحملة الصليبية الخامسة قد انطلقت من الشام فإن الحملة السابعة انطلقت من فرنسا بقيادة الملك لويس التاسع المعروف بالملك القديس (سان لويس) لما عرف عنه من تدينه الذي كان دافعه على القيام بهذه الحملة التي تشبه في بدايتها ومسارها إلى حد كبير سابقتها الحملة الخامسة،
جاء الملك لويس التاسع أو الملك القديس من فرنسا على رأس أسطول ضخم يزيد على 1800 سفينة تحمل 80 ألف مقاتل وفي طريقها تعرضت لرياح عاصفة اضطرت حوالي 700 سفينة إلى الانفصال والجنوح إلى شواطئ الشام، نزلت القوات في البر الغربي في يونيو ١٢٤٨ بقيادة الملك لويس وعلى الجانب الإسلامي كان الملك الصالح نجم الدين الأيوبي والذي كان مريضا ومقيما بأشموم طناح وكانت القيادة الميدانية للأمير فخر الدين الذي أرسل الحمام الزاجل إلى السلطان الملك الصالح عن وصول الحملة ولما لم يتلق رداً تصور أن الملك قد مات وقام بانسحاب غير منظم والذهاب إلى أشموم طناح فأصبح الطريق خاليا للجانب الفرنسي فدخلوا دمياط دون مقاومة واحتلوها وكانت هناك الفظائع التي تعرضت لها المدينة وأهلها والتي سجلها التاريخ.
جاء تطور خطير عندما وصل الخبر بوفاة الملك الصالح يوم 22 نوفمبر 1248 فكانت الطامة الكبرى كما قال الدكتور الشيال ص 32 «إلا أن القدر هيأ لمصر في تلك الساعة امرأة حاسمة هي شجرة الدر زوجة الملك الصالح التي اخفت خبر موت السلطان وعهدت للأمير فخر الدين بالقيادة حتى جاء الملك توران شاه ابن الملك الصالح من الشام في شهر أبريل 1249، وأخذ توران شاه بمساعدة المماليك البحرية في الاستعداد للمعركة التي انتهت بإيقاع جيوش الملك القديس لويس التاسع بمدينة فارسكور جنوب دمياط بحوالي 17 كم. وكان قد قتل من فرسانه أكثر من عشرة آلاف فارس وتم أسر حوالي مائة ألف من الخيالة والرجالة والصناع.
لم يجد الملك لويس أمامه سوى أن يعتلي تلاً مع قواده ويطلب الأمان فأمنوا وأسر الملك القديس وقواته وحملوا من فارسكور إلى المنصورة وبقي سان لويس بدار ابن لقمان في المنصورة.
ولعله من مفارقات التاريخ أن بعد هذا الحادث بخمسة وعشرين يوما جرى صراع بين الملك توران شاه وبين قادة الممالك البحرية الذي كان لهم فضل كبير في إلحاق الهزيمة بقوات الإفرنج وتبين لقادة المماليك البحرية أن توران شاه يعتزم التخلص منهم فسبقوه، وكان مقيما في مبنى عال بفارسكور وأطلقوا النار فألقى بنفسه نحو النيل فلحقوا به وقتلوه في مايو 1250، م وتم تولية شجرة الدر لفترة وجيزة ملكا على مصر ثم تولى المماليك البحرية الحكم وهكذا انتهت الحقبة الأيوبية وبدأت حقبة المماليك البحرية.
وقد سبق أن سجلت في حديثي عن مكتبة المنصورة مشهد رحيل الملك لويس التاسع ودفع الفدية ولقاءه بزوجته مارجريت دبروفانتس حاملة رضيعها وجرى لقاؤهما خارج بوغاز دمياط (أي خارج المصب).
كان للحملتين الخامسة والسابعة اللتين وقعتا في النصف الأول من القرن الثالث عشر تداعيات كبيرة وقد نشأت هذه التداعيات أساسا مما أصاب الفكر الاستراتيجي لدى الحاكم الأيوبي الكامل محمد الذي رأى نقل خط الدفاع الأول عن مصر من دمياط لتكون المنصورة هي البديل لدمياط. ثم اتخاذه للقرار العجيب عام 1227 بهدم ميناء ومدينة تنيس الواقعة على بحيرة تنيس (المنزلة) فأزيلت هذه المدينة العظيمة التي كانت أيقونة لما مثلته كعاصمة للنسيج الراقي بحيث كانت هي التي تنسج كل عام كسوة الكعبة المكرمة وكان الملوك يتباهون بارتداء ثياب مصنوعة بتنيس وبعد أن أزيلت هذه المدينة تماما من الوجود.
جاء حكم المماليك البحرية فاتفقوا على تخريب دمياط أسوة بما جرى بتنيس وكما قال دكتور الشيال «أرسلوا حزمة من الحجارين والفعلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين 18 من شعبان ٦٤٨ هجري حتى خربت دمياط بالكامل وهدمت جميعها بأسوارها وقلاعها وقصورها ولم يبق منها سوى الجامع الكبير الذي يعرف حتى الآن باسم جامع أبو المعاطي.
ولكن دمياط استطاعت أن تنهض من جديد ويشهد الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة عندما زار دمياط في القرن الرابع عشر وصف دمياط بأنها «مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب» (ص 41 كتاب مجمل تاريخ دمياط للدكتور الشيال).
كما جاء المؤرخ الشهير المقريزي في القرن الخامس عشر ووصف دمياط بأنها «أحسن بلاد الله منظرا» وأنشد قصيدة عن دمياط وصف فيها مرج البحرين:
«وفي مرج البحرين جم عجائب تلوح وتبدو من قريب ومن بعد»
كما جاء الرحالة الفرنسي سفاري ووصف كيف أصبحت مدينة كبيرة قبل الحملة الفرنسية بحوالي عشرين عاما أي عام 1778 وأمضى بها ثلاثة سنوات وأعجبته دمياط فمكث فيها 14 شهرا ويقول «لقد طفت ألف مرة في تلك الأرباض الشاهقة بهذه المدينة ولم يكن من المستطاع أن يشبع المرء من طبيعتها الحسنة ومرأى الصورة البهية للمصب ثم بحيرة المنزلة ووصف الطيور التي تحل بها وصفا رائعا. (كتاب نقولا يوسف ص ٢٢٧ إلى ص ٢٣٢)
– الصور من كتاب الدكتور جمال الدين الشيال
«مجمل تاريخ دمياط»
اختتم حديثي عن مكتبة عزبة البرج بالتحدث عن المسطح المائي الثالث المحيط بها بعد النهر والبحر وهو بحيرة المنزلة، جزء من الكيان الإقليمي والبيئي للمنطقة.
حسبما يقول واحد من أهم من كتبوا عن بحيرة المنزلة وهو اللواء عبد المنصف محمود في كتابه المعروف «على ضفاف بحيرات مصر» فإن هذه البحيرة لم يكن لها وجود قبل القرن السادس الميلادي وأن نشأتها جاءت نتيجة زلزال ضرب منطقة شمال الدلتا التي كانت منطقة فيحاء تتحدث الكتب القديمة عن ثرائها إلى أن جاء هذا الزلزال فعصف بها فاختفت من الوجود وتكونت على أرضها هذه البحيرة التي أصبحت فيما بعد درة بحيرات مصر وأكبرها مساحة وتبلغ حوالي 750 ألف فدان.
اكتسبت هذه البحيرة اسمها من مدينة تنيس التي كانت مدينة وميناءاً عظيماً بمثابة التوأم لمدينة وميناء دمياط.
يقول المؤرخ الدمياطي العتيد د. جمال الدين الشيال أن مدينة تنيس التي نشأت بين مدينتي الفارما (أول محطة في رحلة العائلة المقدسة) في شرقها، ودمياط في غربها وأنها قد لعبت دورا حضاريا كبيرا في تاريخ مصر الإسلامي، فكانت ثغرا بحريا هاما وبني بها أسطول ودار لصناعة السفن، كما كانت مركزا من أهم مراكز صناعة النسيج الرفيع، وبها كانت تصنع كسوة الكعبة المكرمة لقرون طويلة، وإلى جانب الاشتغال بالنسيج كان أهلها يمتهنون مهنة صيد الأسماك والطيور.
أشير أيضا إلى المخطوط النادر «أنيس الجليس في أخبار تنيس» الذي لم يتبقى منه إلا صفحات قليلة حققها الدكتور الشيال، وجاء بهذا المخطوط أنه كان هناك أكثر من مائة من الطيور. التي كانت تعبر إلى بحيرة تنيس:
«الجراد، الصرد، الحسيني، الصدا، اللسنة، أبو الحنا، برقع أم علي، برقع أم حبيب، القمري، در ندر مالي، الراهب، الشماس، الخضير، الصقر، الهدهد، وارية الليل، وارية النهار، البلسنير، الضريس، الأطروش الشامي، البصبص، الأخضر، أم السمان، أم المرتحة، صدر النحاس، أبو سار، أبو كلب، ديك الكروم، الفرافير، القطاس، الأوز، البط، البعصص، الأزرق، رقشة زرقاء، الزرزور، الخفاش، الزاغ، الغراب، الأبقع، كسر اللوز، كسر الجوز، الدبس، الغابة، الصقر، الفحمى، الحدأة، الحملة، السلسلة، البوم، الواق، الهام، الباشق، الشاهين، السمان، المرعة، السلوى، الملوح، البرير، الرخمة، الليش، البرنسي، الزجاجي، أبو فيروز، القرط، البون، الشراشير، اللفات، البشروش، البط البري، البلجون، أبو قلمون، الكروان البحري، الكروان الجرفي، القرلا، الحروطة، الحصفة، الحمراء، البوشة، أورث، المطون، الهيكة البيضاء، فاربة، جوحه، بليقا، اربوحية، بطميس، تيلاوه، سكسه، المجنونة، الرفادة، السقس، قرد مصر، الوطواط، البجع، الكركي، العريض، الخطاف، الخوطوم»
كما ذكر أكثر من ستين نوع من أسماء الأسماك:
«البوري، البلبيس، الليت، البرو، الاراث، النسا، الشكين، الطوبار، القلادن، البلل، البلطي، الإبلبل، القشمار، الزلنج، الاكلت، القونج، القجاج، الدونيس النقط، القرقراج، اللاج، الحبار، التون، الأحناش، الانكليس، المقيثة، الخف، اللات، الحبلا، الماص، المشط، القنا، حوت الحجر، السنور، الراي، الابرميس، اللبيس، سيف الماء، حدأة الماء، الشطون، اللجا، القرش، الحسة، كلب الماء، السرطان، التمساح، السرنوب، الصبح، أم الأسنان، الدلفين، العميان، النسانس، الرعاد، البلستين، الاقونس، القنديل، المجرة، الليف، الحلبوه، القماريس، الآبنوس، القرندس، الديليس.
ظلت مدينة تنيس تقوم بهذا الدور الحضاري العظيم إلى أن جاء القرار العجيب عام 1227 للملك الكامل الأيوبي بعد الحملة الصليبية الخامسة (حديث المكتبة 13) بتدمير المدينة عن بكرة أبيها حتى لا تظل مطمعا للغزوات الصليبية القادمة سواء من أوروبا أو من الممالك الإفرنجية التي تأسست في بلاد الشام، وبالمناسبة كانت دمياط أيضا قد صدر بشأنها قرار من المماليك البحرية مماثل، إلا أن الله كتب لها البقاء وإعادة البناء بعد أن كان قد دمر أغلبها.
ظلت البحيرة بعد تدمير تنيس باسمها الجديد «بحيرة المنزلة» نسبة لمدينة المنزلة بحيرة عظيمة تكتسب مياهها من البحر المتوسط ومن نهر النيل خاصة في فترة الفيضان.
قدر الله لي أن أرى هذه البحيرة وهي في زهوها حيث كنت في طفولتي أذهب مع المرحوم أخي الأكبر محمد وأرى منظر الطيور الزاهية على شاطئ البحيرة، كما قدر لي أن أراها بعد ذلك في أواخر الستينات بعد إنشاء السد العالي وغياب الفيضان عن مياهها.
والواقع أن هذه البحيرة كانت جزءاً من المنظومة البيئية لمنطقة شمال الدلتا وهي تندرج فيما يسمى بالأراضي المبتلة wet lands مثل البراري ذات المياه الضحلة، وقد ظل إنتاجها من السمك والطيور انتاجا وفيرا ومن أشهى ما يمكن أن يقدمه المطبخ الدمياطي.
بعد ذلك وخلال الخمسين أو الستين عاما الماضية تعرضت هذه البحيرة الجميلة إلى قرارات نالت منها ومن قيمتها وجمال طبيعتها وإنتاجها البحري.
كان أول ما جرى هو البدء بردم أجزاء من البحيرة فأصبحت مساحتها 125 ألف فدان بعد أن كانت ٧٥٠ ألف فدان، إلا أن الأدهى من ذلك ما جرى من تلويث مياه هذه البحيرة حيث أصبحت مستودعا للصرف الصحي والصرف الزراعي وربما الصرف الصناعي، فبعد أن كان الناس يبحثون عن أسماكها أصبحوا يبتعدون عن هذه الأسماك التي أصابها التلوث البيئي وأصبحت جزرها مرتعا للخارجين عن القانون بمختلف أنواع الخروج عن القانون.
أثناء عملي سفيرا في واشنطن زرت العديد مما يسمى بالمحميات الطبيعية National Parks ومن بينها مسطحات البراري ذات المياه الضحلة وفي مرة من المرات كنت أبحر لعدة أيام مع مجموعة من الأصدقاء في نهر كولورادو العظيم، وهو محمية طبيعية وكان محظورا علينا أن نستخدم الصابون العادي في الاغتسال من مياه النهر بل علينا أن نستخدم صابونا معالجا حتى لا تتلوث مياه هذا النهر ولم يكن أحد يجرؤ على أن يلقي في النهر أيا من الفضلات مهما صغرت.
وقد كان من نتائج تلوث السمك بالبحيرة وابتعاد الناس عن شرائه أن بدأ الصيادون في البحيرة يبحثون عن مصدر آخر للصيد فاتجهوا للصيد في منطقة البحر الأحمر التي لا يعرفون مياهها وشعابها، وأصبحت هناك حوادث غرق كما تعرض البعض للتصادم مع السفن الكبيرة، وفي عام 2014 وقع حادث من هذا النوع لسفينة باسم «بدر الإسلام» وكان هناك منظرا يدمي القلوب؛ كنا في الشتاء عندما غرقت سفينة الصيد ولم يكن هناك أي وسيلة لإنقاذ صياديها فغرقوا بالكامل، ومن المعروف أن البحر الأحمر منطقة مليئة بأسماك القرش وقد قرأت عن هذا الحادث وكتبت مقالا عن مأساة هؤلاء الصيادين ونبهت إلى أهمية تدريب هؤلاء الصيادين على الصيد في هذه المياه التي لم يتمرسوا في الصيد فيها من قبل وضرورة أن تكون كل سفينة مجهزة بوسائل الإنقاذ للسفينة وللأفراد العاملين عليها وإيجاد وسائل فعالة للاستغاثة حتى يتمكن رجال غفر السواحل من تحديد موقع على تحديد موقع الحادث والتحرك فورا بقوارب سريعة للإنقاذ.
ربما كان على الجانب المشرق أن أخبرني بعض الأهل في عزبة البرج أنه تجري الآن محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بحيرة المنزلة حيث توجد كراكات تعمل ومحاولة جادة لتطهير البحيرة من الخارجين عن القانون الذين توطنوا على جزرها وسيطروا عليها.
أذهب أيضا إلى صفحة مشرقة أخرى في تاريخ بحيرة المنزلة حول انطلاق حركة المقاومة لحملة نابليون بونابرت عام 1798، حيث جاءت قوات نابليون إلى منطقة المنصورة ودمياط وعين نابليون الجنرال فيال للسيطرة عليها فخرجت المقاومة الباسلة للتصدي للقوات الفرنسية من بحيرة المنزلة بقيادة رجل مهاب هو حسن طوبار الذي جمع ما يقرب من ألف مركب من مراكب البحيرة وخرجوا وتحركوا إلى دمياط حتى وصلوا إلى غيط النصارى شرق دمياط وبدأوا بالهجوم على الحامية الفرنسية إلى أن أرسل إليهم نابليون فرقة لمقاتلتهم، وأصبحت القرى الواقعة جنوب دمياط حتى المنصورة بما فيها الشعراء وفارسكور وغيرها مسرحا لعمليات المقاومة والكر والفر بين قوى المقاومة وقوى الاحتلال التي ارتكبت الفظائع ضد بعض القرى مثل قرية ميت الخولي عبد الله التي أباحها الجنرال فيال لقواته فاستولت على ما استولت ونهبت ما نهبت وارتكبت من الفظائع ما ارتكبت مما جعل نابليون نفسه يؤنب الجنرال فيال على مبالغته في اتخاذ هذه الإجراءات.
أصبحت عزبة البرج مركزا آخر للمقاومة في منطقة المصب والبوغاز، كما تم في نفس الوقت أن قام أهل عزبة البرج بالهجوم على الحامية الفرنسية وقضوا على قوة الاحتلال وعندما علم أهل عزبة البرج بالفظائع التي ارتكبها الجنرال فيال في دمياط والقرى المحيطة بها وتأكدوا من أن الدور سيأتي عليهم للانتقام منهم، قاموا بالتجمع في مراكبهم الشراعية وغادروا عزبة البرج إلى بلاد الشام، وقد رأى الفرنسيون بعد إخضاع هذه الثورات تحصين منطقة دمياط فأنشئوا قلعة بعزبة البرج وقلعتين على مدخل البوغاز شرقا وغربا، وأعتقد أن بقايا هذه القلاع مازال موجودا بعزبة البرج في المنطقة التي تشغلها قوات السواحل في جنوب عزبة البرج وفي المنطقة المجاورة للفنار شمال عزبة البرج وأثناء دراستي الثانوية ذهبت إلى المنطقة الواقعة بجوار الفنار وكتبت مقالا نشر بمجلة المدرسة وكنت في السنة الرابعة من دراستي الثانوية، وأعتقد أن وزارة الآثار معنية بإنقاذ هذه الآثار مما سيكون عملا محمودا لها.
أغلب الظن أن مكتبة عزبة البرج ستكون بمشيئة الله المكتبة العشرين في منظومة مكتبات مصر العامة والفرع الثاني لمكتبة مصر العامة بدمياط بعد فرع دمياط الجديدة.
أتطلع إلى اليوم الذي نفتتح فيه هذه المكتبة، وسيكون هذا يوما نقدم فيه الشكر بوجه خاص لشخصيتين يستحقان كل تقدير وعرفان، وهما المحافظ المثقف الدكتور فتحي البرادعي الذي أصدر قرار تخصيص الأرض لهذه المكتبة ورسم بقلمه كمهندس معماري عظيم كيانها المعماري في الموقع الذي اختاره لها، أما الشخصية الثانية فهي الدكتورة منال عوض محافظ دمياط المثقفة وذات الإرادة الحديدية والقدرة الإدارية الفذة التي بنت على ما بدأه الدكتور البرادعي لينال أهل عزبة البرج وما حواليها هذه المكتبة التي ستكون بمشيئة الله مركزا للإشعاع الحضاري ومنارة جديدة من منارات مكتبات مصر العامة على النيل والبحر.
مكتبة الغردقة
منارة على البحر الأحمر
أول مكتبة عامة تنشأ على ساحل هذا البحر بما له من تراث في تاريخ مصر وفي أذهان المصريين…
جاء إنشاء هذه المكتبة كثمرة من ثمار اجتماع المحافظين يوم 21 يونيو عام 2000 الذي سبقت الإشارة إليه في حلقات سابقة من هذا الحديث، فكانت المكتبة الخامسة بعد مكتبات الوادي الجديد، وبورسعيد، والمنصورة، ودمياط… والمكتبات الثلاث الأخيرة أنشئت بمحافظات تطل على البحر الأبيض.
خمسة عشر عاما تفصل ما بين افتتاح المكتبة في مبنى صغير بالغردقة في 23 أغسطس عام 2005 وما بين ما هي عليه اليوم في مبنيين متجاورين على أرض تبلغ مساحتها 5800 متر مربع.
حققت وتحقق هذه المكتبة انجازات هامة في مجال توفير مواد الاطلاع للكبار والصغار وإقامة الأنشطة الثقافية وورش العمل لأهل الغردقة ومحافظة البحر الأحمر ثم ما تحققه اليوم من انتشار على ساحل البحر بحيث تم افتتاح مكتبة فرعية بمدينة مرسى علم السياحية عام 2019 ومكتبة فرعية ثانية توشك على الافتتاح في مدينة القصير التاريخية… ونتذكر هنا دور المحافظين المثقفين الذين قدروا الدور المجتمعي للمكتبة العامة فلم يبخلوا بأي جهد في سبيل دعمها ونشر رسالتها…
يأتي للذهن هنا بطبيعة الحال دور المحافظ الصديق اللواء سعد أبو ريدة الذي كان له فضل البدء، ودور المحافظ المثقف اللواء أحمد عبد الله الذي حقق الانتشار على ساحل البحر في مرسى علم والقصير…
ظل البحر الأحمر حتى وقت قريب بعيدا عن وجدان المصريين من سكان وادي النيل.. ولم يكن الكثيرون يعرفون مدن البحر الاحمر الواقعة على خليج العقبة مثل طابا ودهب ونويبع وشرم الشيخ والمحمية الطبيعية في رأس محمد إلا مؤخرا بعدما أصبحت هناك الطرق والأنفاق التي تم إنشاؤها بعد حرب أكتوبر المجيدة وتربط الوادي بسيناء والبحر الأحمر.
يظل ساحل هذا البحر ثريا بما يمثله في التاريخ… فهو طريق الحج إلى بيت الله الحرام حيث يقصده المسلمون القادمون من مدن الأندلس مثل أشبيلية وقرطبة ومرسية وغرناطة وأغلبهم يقطعون رحلة الحج سيرا على الأقدام بعد أن يعبروا البحر إلى المغرب ويسيرون على طول ساحل البحر فيسقط منهم من يسقط عندما توافيه المنية فيقام على مثواهم شاهد ويطلق لقب سيدي ومن هنا كانت هناك هذه الاسماء مثل سيدي عبد الرحمن وسيدي بشر وسيدي كرير وغيرهم وعندما يصلون الي الاسكندرية تاخذهم الرحلة جنوبا إلى ساحل البحر الأحمر… قاصدين ميناء عيذاب القديم وموقعه جنوب مرسى علم حاليا وبالقرب من برنيس وراس بناس، ومن عيذاب يأخذون السفن الشراعية التي تعبر بهم إلى الساحل الشرقي من البحر الأحمر على الجزيرة العربية والأراضي المقدسة مكة والمدينة، وطوال هذه الرحلة يسقط آخرون من بينهم أولياء الله الصالحين… ولعل أشهرهم هو أبو الحسن الشاذلي وله مقامه في مزار هام يؤمه مريدوه الذين يحضرون بالآلاف لإحياء ذكرى مولده كل عام بالقرب من مرسى علم وبالقرب ايضا من منجم السكري للذهب، وكما توجد هذه المزارات الإسلامية توجد أيضا الأديرة المسيحية بالبحر الأحمر… ولعل أشهرها دير الأنبا أنطونيوس ودير الانبا بولا .. وطبعا هناك الدير العتيد دير سانت كاترين في جنوب سيناء بمنطقة جبل موسى عليه السلام.
لا يقتصر تراث البحر الأحمر على البعد الديني بل يمتد الى حقبة الفراعنة في مصر حيث كان البحر الأحمر هو طريق رحلات الملكة حتشبسوت إلى بلاد بونط (الصومال) للتبادل التجاري بين مصر وهذه البلاد .
قبل أن ننتقل من التاريخ القديم الى التاريخ الحديث قد تجدر الإشارة إلى ما أصاب مدن البحر الأحمر وخاصة ميناء عيذاب أثناء فترة الحروب الصليبية والاعتداء الذي قام به البرنس أرنولد صاحب الكرك من المواقع التي خضعت لحكم الأمراء الصليبيين بالشام ومحاولته الاستيلاء على أراضي الحجاز وهدم قبر الرسول علية الصلاة والسلام وتصدى الأسطول المصري بقيادة «حسام الدين لؤلؤ» فأوقع بهم جميعا وساق منهم عددا من الأسرى إلى مصر في مشهد مهيب وصفه ابن جبير. (كتاب «سكان الصحراء الشرقية المصرية ..المعازة -العبابدة-البشارية» للدكتور محمد رجائي جودة الطحلاوي ص 53 الذي نشرته دار الكتب والوثائق القومية عام ٢٠٠٨)
يندرج أيضا في هذا السياق ما تعرضت له مدينة القصير التاريخية من غزو من حملة نابليون أواخر القرن الثامن عشر وما جرى من مقاومة شعبية لها شارك فيها مئات المتطوعين الذين عبروا البحر من الجزيرة العربية لدعم المقاومة في القصير.
أما في التاريخ الحديث فلقد شهد ساحل البحر الأحمر والقرن الأفريقي وجودا مصريا قويا منتظما على طول الساحل والقرن الافريقي خاصة في حقبة الخديوي إسماعيل صاحب الرؤية الاستراتيجية بتحقيق وحدة وادي النيل ليس فقط من خلال البر على النيل الابيض في بحيرة فيكتوريا وبحيرة البرت ولكن ايضا من خلال البحر الاحمر الى منابع النيل الأزرق فكان الوجود المصري على طول الساحل والقرن الافريقي، وكان الوجود المصري على طول الساحل الغربي للبحر الأحمر والقرن الأفريقي مثل سواكن ومصوع وبربرة وزيلع وغيرها… وبالداخل في هرر (إثيوبيا حاليا)..
هذا التاريخ هو تاريخ قريب… في القرن التاسع عشر… ولعل مكتبات مصر العامة في الغردقة وفرعيها تهتم بتوثيقه ولفت أنظار الشباب إليه.
أما التاريخ الأحدث فهو تاريخ يصب في ذاكرة ما شهدته منطقة البحر الأحمر في النصف الثاني من القرن العشرين من معارك مشهودة فيما كان من حروب بين مصر واسرائيل مثل معركة شدوان في منطقة شرم الشيخ ولعلنا لا ننسى ما قامت به البحرية المصرية العظيمة من إغلاق البحر الأحمر في أقصى الجنوب بباب المندب أثناء حرب أكتوبر المجيدة…
لا تقتصر الذاكرة عن البحر الأحمر على هذا الجانب التاريخي والقومي بل يمتد إلى الصحراء الشرقية وصحراء النوبة وسكانها من قبائل المعازة والعبابدة والبشارية والرحلات التي قام بها المستكشفون في هذه المنطقة الهامة… وأشير هنا بوجه خاص إلى الرحلة التي قام بها الرحالة السويسري بوركهارد Burckhardt, J.L.: Travels in Nubia»» ونشرته الجمعية الأفريقية بلندن عام 1819 وصدرت له ترجمة في مصر أشرف عليها المؤرخ المصري الرائد شفيق غربال.
وعندما نتحدث عن هذه المنطقة فلابد أن نذكر ما بها من مواقع بيئية خلابة بما يجعلها جديرة بأن تكون محميات طبيعية مثل جبل علبة.
يبقى أن نشير إلى مياه هذا البحر العظيم وما تضمه من شعاب مرجانية خلابة وأحياء بحرية نادرة الجمال جعلت منطقة البحر الأحمر إحدى أهم مناطق الغوص في العالم… وجعلت من ساحل البحر الأحمر وخاصة في منطقة خليج العقبة ومحمية رأس محمد مقصدا سياحيا عالميا.
ولعل كل ذلك يجعلنا نطالب بإعادة معهد الأحياء البحرية الذي كان بالغردقة، الذي أسسه ورعاه العالم المصري الكبير الدكتور حامد جوهر… وقد تقوم مكتبات مصر العامة بالبحر الأحمر بما تقدمه وتقيمه من ندوات ومحاضرات بإحياء الاهتمام بالجانب العلمي لدراسات البحر الأحمر بالاضافة الى الجانب التاريخي بطبيعة الحال..
أنظر باهتمام إلى مكتبات مصر العامة على ساحل البحر الأحمر بالتوازي مع ما نسعى لإقامته من مكتبات في جنوب الوادي بالصعيد نظرا للارتباط البشري والتقارب الجغرافي بين المنطقتين.
والحديث عن البحر الأحمر وتراثه بالتاريخ وامكانياته الراهنة وما تفرضه من تحديات علمية واقتصادية وسياحية هو حديث بلا حدود ….
التراث المصري على ساحل البحر الأحمر…
تحدثت في الحلقة السابقة عن الوجود المصري على طول الساحل الغربي للبحر الأحمر…حتى القرن الإفريقي وجمهورية الصومال… وقد جاء هذا الوجود خلال حقبة الخديوي إسماعيل صاحب الرؤية الإستراتيجية والاهتمام بالوجود المصري إلى منابع النيل الأزرق وربط ذلك بالنيل الأبيض. ورغم ما حققه إسماعيل من نجاح بالنسبة للوجود المصري في المنطقة الاستوائية والوصول إلى بحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت وإقامة المدن التي حملت أسماء الخديوي وأبيه إبراهيم…إلا أن الوجود المصري على ساحل البحر الأحمر لم يستمر طويلا.
قد تحدثنا في الجزء 15 عن ميناء عيذاب الذي كانت تستهدف قوافل الحجاج القادمين من كل بلدان شمال أفريقيا الوصول إليه ليلة عبوره منها إلى جدة على الساحل الشرقي ثم للوصول إليه العبور منه إلى الأماكن المقدسة بمكة والمدينة وغيرهما من مدن الحجاز.. ثم يتواصل الوجود المصري ليشمل كل المدن المصرية على الساحل الغربي..
أعتقد أن ميناء بور سودان لم يكن قد أقيم بعد ولكن كانت هناك سواكن وما بعدها… ثم يمتد الوجود المصري إلى هذه الموانئ الهامة مصوغ وزيلع وبربرة بالقرن الأفريقي… ثم يمتد حتى الصومال… وآخر نقطة طبقا للأمر العالي الصادر في 15 يونيو 1880 هي رأس حافون ( الرافعي، عصر إسماعيل، الجزء الأول، ص 136) ثم يمتد الوجود المصري ليتجه إلى سلطنه «هرر» الواقعة بالداخل وكانت زيلع هي ميناءها، وهرر حاليا بالأراضي الإثيوبية، وقد نص قرار الباب العالي المشار إليه علي أن نكون مصوغ وزيلع وبربرة تابعة من الناحية الإدارية إلى مدينة «هرر» أو عن سلطنة «هرر» ويصفها الرافعي ويصف أهلها وصفا جميلا وكيف كانت يوم فتح القوات المصرية لها عام 1875 ويقول أنها تبعد حوالي 232 ميلا من زيلع وهي من المدن العامرة يسكنها 35 ألف نسمة وهم على جانب من الحضارة، والتعليم منتشر بينهم، وبينهم الشعراء والأدباء وأن جميع الصغار فيها يتعلمون القراءة والكتابة والرياضيات والفقه على مذهب الإمام الشافعي وان عادة تعدد الزوجات معدومة هناك»
وفيما أعلم فان «هرر» تعتبر الآن من المزارات السياحية في إثيوبيا وهي مدينة إسلامية.
أما كيف انتهى الوجود المصري من هذه المناطق التي تدخل الآن في زمام دول أخرى.. السودان واريتريا والصومال وإثيوبيا فهو يرتبط بتلك السياسات الاستعمارية التي اتبعتها إنجلترا منذ بدأت تضع عينها على مصر واستغلت كل أحداث الثورة العرابية والثورة المهدية لإنهاء الوجود المصري في السودان وعلى البحر الأحمر وهو ما تحقق لها…
ولقد سبق لي أن كتبت في مقالات في صحيفة الأهرام مطالبا بإحياء الوجود الثقافي المصري في السودان واليوم فإنني انتهز الحديث عن مكتبات مصر العامة على ساحل البحر الأحمر وانتظر بفارغ الصبر مكتبة القصير قريبا إن شاء الله… لكنني أدعو الآن ومن هذا الموقع مكتبات مصر العامة على ساحل البحر الأحمر أن تهتم بتاريخ الوجود المصري على سواحل البحر الأحمر وتعمل على توثيقه وإحيائه وإحياء الاهتمام به فهذا الوجود تراث مصري عظيم ينبغي أن يعرفه أبناؤنا من هذا الجيل.
مكتبات مصر العامة على ساحل البحر الأحمر مثل مكتباتها على البحر الأبيض مدعوة لتعريف أبناء المحافظة والمحافظات المجاورة في الصعيد بتاريخ وتراث مصر في هذه البلاد وذلك جزء من رسالة المكتبات ويتم ذلك ليس فقط من الكتب ولكن أيضا بالندوات واللقاءات والزيارات أيضا.
تحية لأهلنا في سواحل البحر الأحمر
النقلة النوعية .. القرار الجمهوري
أهم ما تجلت فيه انجازات القرار الجمهوري الخاص بتنظيم مكتبات مصر العامة الصادر في عام 2006 (القرار الجمهوري رقم 49 لسنة 2006) الذي يعتبر نقلة نوعية في مسيرة المكتبات العامة أنه جعل مسئولية إنشاءها وتشغيلها مسؤولية مشتركة بين التنمية المحلية وبين مكتبة مصر العامة.
قبل أن يصدر القرار الجمهوري كانت المكتبة تواجه أوقات صعبة عبرت عنها في حديث المكتبة رقم (5) بعنوان «من أنتم» فلم تكن هناك أية جهة في الدولة مسئولة عن تمويل المكتبات، بل كنا نعتمد في أغلب الوقت على ما نتلقاه من تبرعات من المجتمع المدني.
بعد القرار الجمهوري أصبحت مكتبات مصر العامة جزءا من الكيان الحكومي الثقافي مع درجة كبيرة من الاستقلالية.
صحيح أن هذه المسئولية المشتركة بين الحكم المحلي وبين المكتبة الرئيسية بدأت على أرض الواقع منذ استجاب عدد من المحافظين للدعوة التي وجهناها لهم عام 2000 لينشئوا مكتبات في عواصم محافظاتهم بالتعاون معنا، ونذكر هنا المكتبات الإقليمية التي أنشئت في الواحة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد وفي بورسعيد والمنصورة ودمياط والغردقة وكلها أنشئت قبل صدور القرار الجمهوري فكانت هناك خبرة عملية سابقة قبل صدور القرار الجمهوري واعتمدت عليه الأعمال التحضيرية في الصياغة النهائية للقرار الجمهوري.
لقد جاء القرار الجمهوري من خلال عدة جلسات شارك فيها المستشار مصطفى حنفي نائب رئيس مجلس الدولة والمستشار القانوني لرئاسة الجمهورية، والمستشار عدلي حسين محافظ القليوبية آنذاك وكاتب هذه السطور بما تراكم لديهم من خبرة مشتركة لعديد من الأعوام تم فيها إنشاء خمسة مكتبات إقليمية كانت بمثابة النموذج الذي يمكن أن يتبع عند إعداد القرار الجمهوري.
كان من أهم ما تضمنه القرار الجمهوري إنشاء صندوق لدعم مسيرة مكتبات مصر العامة ويلعب هذا الصندوق دورا هاما في دعم المكتبات وتبلغ ميزانيته السنوية حوالي ١٢ مليون جنيه تقدم سنويا حسب احتياجات المكتبات وأيضا حسب مدى التزامها بتحقيق المنجزات المطلوبة.
أصبح القرار الجمهوري بمثابة الدستور أي القانون الأساسي لمنظومة مكتبات مصر العامة يتصدره المادة الأولى التي تنص على «مكتبة مصر العامة هيئة ثقافية ومركز إشعاع حضاري أنشأته وزارة الثقافة بالاتفاق مع مؤسسة برتلسمان الألمانية ومقر المكتبة مدينة الجيزة وتكون لها الشخصية الاعتبارية وتتبع وزير الثقافة ويكون لها إنشاء فروع في مدينتي القاهرة والجيزة»
وتنص المادة ١٤ على « يكون إنشاء مكتبات مصر العامة الإقليمية في عواصم المحافظات وفروعها في المدن والقرى بقرار من المحافظ المختص بالتنسيق مع مجلس إدارة مكتبة مصر العامة الرئيسية»
من خلال هذا القرار أصبح هناك نظام متكامل لإنشاء المكتبات الإقليمية بالتوافق والتنسيق بين المحافظ وبين المكتبة بدءا من اختيار قطعة الأرض التي تقام عليها المكتبة وصلاحية موقعها ثم يصدر قرار المحافظ بتخصيص قطعة الأرض وعندما نأتي إلى التمويل يذهب رئيس مجلس الإدارة ومعه مدير الصندوق إلى اللجنة الثقافية بمجلس النواب من أجل اعتماد المبلغ الذي طلبته المحافظة لإنشاء المكتبة ثم تبدأ بعد ذلك مسيرة الإنشاء والتجهيز والعمالة… كل هذه المراحل يتم العمل بها بالتعاون والتناغم والتنسيق بين المكتبة والمحافظة في كل خطوة من خطوات إنشاء المكتبة الإقليمية.
ويلعب صندوق مكتبات مصر العامة دورا أساسيا في هذه المسيرة ويقوم بهذا الدور السفير رضا الطايفي مدير صندوق مكتبات مصر العامة وعضو مجلس إدارة المكتبة الذي يذهب إلى كل مواقع إنشاء المكتبات لمتابعة ما يجرى مع الحكم المحلي في تدبير ما يلزم لإنجاز المكتبة الإقليمية، ويعاونه في كل ذلك الدكتور أحمد أمان منسق عام مكتبات مصر العامة.
وقبل الافتتاح يذهب مدير المكتبة الرئيسية ومساعدوه إلى المكتبة الإقليمية للإشراف على كل الترتيبات اللازمة ووضع اللمسات الأخيرة للمكتبة الإقليمية.
ولا يعتبر افتتاح المكتبة الإقليمية نهاية الطريق بل يكون بداية لمرحلة جديدة مستمرة هي مرحلة المتابعة وتواصل الدعم، ونحن نربط ما يقدمه الصندوق من دعم بمدى ما تحققه المكتبة الإقليمية من إنجاز.
ويقيم السفير رضا الطايفى مدير الصندوق اجتماعاً سنوياً لمديري المكتبات الإقليمية ويعقد هذا الاجتماع بمقر المكتبة الرئيسية بالجيزة أو بإحدى عواصم المحافظات التي توجد بها مكتبات إقليمية وتقدم هذه الاجتماعات فرصة لتبادل الخبرات، وتستمر العلاقة قائمة وموصولة بين المكتبة الأم بصندوقها وبين المكتبات الإقليمية وهكذا تستمر العلاقة القائمة مع المسئولية المشتركة والتبادل بين الحكم المحلى والمكتبة الرئيسية وهى على رأس منظومة المكتبات.
قد يتساءل البعض عن الأسباب التي تجعل مكتبة مصر العامة تقيم مكتبة إقليمية في محافظة ما ولا تقيمها في محافظة أخرى وتمثل الإجابة على هذا السؤال المشروع إننا في كل عام نرسل إلى كل المحافظين الذين لا توجد مكتبات إقليمية في عواصم محافظاتهم للتعاون معها في إنشاء مكتبة إقليمية وهو ما يتطلب معاينة وإصدار قرار بالتخصيص للأرض التي تقام عليها المكتبة والبدء في مسيرة التعاون معاً خطوة خطوة لإنجاز المكتبة الإقليمية ومن المحافظين من يبدى اهتماماً ويرد علينا والمحافظات التي تقام فيها المكتبات الإقليمية هي تلك التي يرد فيها المحافظين مبدين استعدادهم للتعاون معنا في إنشاء مكتبة إقليمية بمحافظاتهم.
من هنا يتضح إننا نراهن على المحافظ المثقف الذي يقدر أهمية إن تكون بمحافظته مكتبة عامة لخدمة المجتمع.
لقد أصبحت هذه المكتبات الإقليمية منارات ثقافية في كافة أرجاء مصر ومن باب إعطاء كل ذي حق حقه أشير إلى أن فكرة إنشاء هذا الصندوق ترجع للوزيرة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي العتيدة في هذه الحقبة.
لقد جاء القرار الجمهوري قطعة من الأدب القانوني بما فتحه من آفاق من أجل إنشاء وتطوير مكتبات عامة وإضفاء ما تتمتع به الآن من استقرار مالي وإداري.
كان القرار الجمهوري هو الأداة التشريعية التي حولت مكتبة مصر العامة إلى مشروع قومي يفتح الباب لإنشاء مكتبات إقليمية في كل ربوع مصر بعد أن كان المشروع قاصرا على مكتبة وحيدة في محافظة الجيزة.
ومن بين منجزات القرار الجمهوري أيضا أنه أدى صدوره إلى موافقة حكومة الدنمارك على أن تقدم منحة لإنشاء مكتبة الزاوية الحمراء قدرها 29 مليون جنيه ساهمت مساهمة كبيرة في تنفيذ مشروع مكتبة الزاوية الحمراء كفرع ثان لمكتبة مصر العامة لتصبح هذه المكتبة من أكبر المكتبات العامة في مصر .
في هذا كله يظهر دور المحافظ المثقف الذي يستجيب لدعوتنا لإنشاء مكتبة عامة في عاصمة المحافظة ومكتبات فرعية في مدنها ونحن نفخر ونعتز بهؤلاء المحافظين. وتضم منظومة مكتبات مصر العامة الآن عشرين مكتبة، منها خمسة مكتبات فرعية في فاقوس ومرسى علم ودمياط الجديدة وكفر الدوار وعزبة البرج (قيد الافتتاح في ديسمبر ٢٠٢٠) فضلا عن مكتبة قيد الافتتاح في القصير، ومكتبة تحت الإنشاء في محافظة قنا.
نذكر من هؤلاء المحافظين المثقفين عبد العظيم وزير في دمياط الدكتور محمد فتحي البرادعي في دمياط، واللواء احمد عبد الله في البحر الأحمر والدكتور مصطفى كامل في بورسعيد، واللواء محمد شعراوي محافظ دمنهور، والدكتورة منال عوض حاليا في دمياط وغيرهم ممن قد لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم الآن.
تحية للمحافظ المثقف الذي يلعب دورا رئيسيا في إنشاء المكتبات الإقليمية وفروعها، وتحية أيضا إلى كل زملائي في مكتبة مصر العامة الرئيسية وصندوقها؛ السفير رضا الطايفي مدير صندوق مكتبات مصر العامة، والأستاذ رياض رضوان مدير المكتبة الرئيسية، والأستاذ أحمد أمان منسق مكتبات مصر العامة على جهودهم ومساهمتهم في إدارة هذا المشروع الثقافي الكبير.
مكتبة الأقصر
كانت مكتبة الأقصر هي المكتبة الأولى التي نفتتحها بعد صدور القرار الجمهوري. كان محافظ الأقصر هو المحافظ المثقف الدكتور سمير فرج والذي نهض بالأقصر نهضة كبيرة… وقد ربطتني به صداقة منذ أن نظمنا سويا عام ١٩٩٨ ندوة عن مرور ٢٥ عاما على حرب أكتوبر… كان هو آنذاك رئيس الشئون المعنوية للقوات المسلحة… بينما كنت رئيسا للمجلس المصري للشئون الخارجية… وقد نجحت هذه الندوة نجاحا كبيرا.. ثم دارت الأيام وجاء الدكتور سمير محافظا للأقصر وفي إطار عملية التطوير الكبيرة التي كان يقوم بها للمدينة كان طبيعيا أن تتلاقى إرادتنا في إنشاء مكتبة عامة للأقصر.
الأقصر هي أعظم مدينة في العالم… وما تضمه من آثار لا يكاد العقل يستوعبه… في الضفة الشرقية للنيل يوجد المعبدان العظيمان الكرنك والأقصر وطريق الكباش وغيرها الكثير… أما الضفة الغربية فهناك مقابر الملوك والملكات المبهرة، وقد كانت بعثات الحملة الفرنسية أول من سجل هذه الآثار ثم نشرتها فرنسا في الكتاب الشهير «وصف مصر».
ولعل أشهر المقابر الآن هي مقبرة الملك توت عنخ آمون التي اكتشفت عام 1922 التي تضم مقتنيات فريدة في جمالها وروعتها، جابت العالم في زيارات كان الناس يحتشدون منذ الصباح المبكر ليتمكنوا من مشاهدتها.
نحن لا نحاول هنا إعطاء دراسة عن آثار الأقصر فهذا قد يحتاج فريقا من المتخصصين الذين لديهم القدرة العلمية ولكننا نعطي هنا بعض الإشارات عن المدينة التي وصفتها بأنها أعظم مدن العالم قاطبة التي احتضنت مكتبة مصر العامة وما تضمه المكتبة من مركز لتسجيل الآثار Culturama الذي سيأتي الحديث عنه بحيث أصبح هناك مؤسسة ثقافية مصرية يمكن للسائح الأجنبي أو للزائر المصري أن يلجأ إليها فيما تضمه من مراجع في قسم «المصريات» وما تقدمه من فعاليات عن الآثار المصرية بعدة لغات أجنبية وإقامة مراكز تعرض بالصوت والصورة بالأبعاد الثلاثية three dimensions التراث المصري وهي من تصميم وإخراج الدكتور المهندس فتحي صالح، واختار اسما عبقريا لهذه المراكز وهو Culturama وكانت مكتبة مصر العامة بالأقصر ومكتبة الإسكندرية هما الجهتين اللتين أقيم بهما اثنان من هذه المراكز… مسرح كبير يضم أكثر من مائتي مقعد وبرامج مصورة… متباينة عن تراث الأقصر الفرعوني العظيم.. وغيره من برامج للمشاهدة مثل برنامج يشبه القبة السماوية في الفلك. وبهذه المكتبة ومراكز التراث بها أصبح رواد المدينة العتيدة يجدون فعالية ثقافية مصرية تقدم لهم بعض ما يطمحون أن يروه بالمدينة العالمية الفريدة.
تم افتتاح المكتبة يوم ١٩/٥/٢٠٠٧ بحضور السيدة سوزان مبارك… وبدأت المكتبة مسيرتها الناجحة.
وكان من حسن حظ مكتبة الأقصر أن جاءها مدير همام هو الدكتور محمد عباس والذي نهض بها نهضة كبيرة، بما أصبح لها من حضور إعلامي كبير للمكتبة وكمركز للتراث، وأعبر عن خالص شكري وتقديري للدكتور محمد عباس.
وفي العام الماضي نظم السفير رضا الطايفي الذي يقود مسيرة مكتبات مصر العامة… فجاء بستة عشر مديرا اجتمعوا في أجواء المدينة العظيمة وشاهدوا النيل في واحدة من أجمل بقاعه… وكان مؤتمرا رائعا… رعاه محافظ المدينة التي أصبحت محافظة… ويومها طلبت منه في كلمتي أن تعمل المحافظة معنا على إنشاء مكتبة في مدينة إسنا ذات التراث العظيم على مشارف صحراء النوبة وقد وعدنا المحافظ المستشار مصطفى ألهم خيرا… وننتظر إشارة البدء… أتطلع جدا إلى إقامة مكتبة في إسنا التي تسبق أسوان في تاريخها.
ولعلنا أمام مناسبة أسجل فيها تقديري لمؤتمرات المديرين السنوية التي ينظمها السفير رضا والتي يتم فيها استعراض ما يجرى في مكتبات مصر العامة المتواجدة الآن في أربعة عشر محافظة وفي تبادل الخبرات في هذا المشروع الثقافي القومي الكبير مشروع مكتبات مصر العامة والذي تبنى شعارا نهدف إليه «مكتبة عامة لكل مائة ألف مواطن»، وأكرر شكري وتقديري لمديرها الهمام الدكتور محمد عباس.
مكتبة دمنهور
كان يوم 7 مايو 2009 يوما بهيجا ومبهجا لنا في دمنهور التي لم أزرها قبل هذا اليوم.
كان مايسترو هذا اليوم هو المحافظ المثقف الذي نبحث عنه ويبحث عنا في مسيرة مكتبات مصر العامة فهو الذي أخذ المبادرة لإنشاء واحدة من أجمل مكتبات مصر العامة الإقليمية في دمنهور عاصمة محافظة البحيرة.
هذا المحافظ هو اللواء محمد سيد شعراوي محافظ البحيرة آنذاك الذي دعانا لافتتاح المكتبة في هذا اليوم.
لم نجد فقط مكتبة رائعة مقامة على قطعة أرض في موقع هام بالمدينة 12000 م2 (اثني عشر ألف متر مربع)… وقريبة من الميدان الهام الذي تقع فيه أوبرا دمنهور القديمة التي أنشأها الملك المثقف فؤاد…
حفل الافتتاح تصدرته السيدة سوزان مبارك كما كان هناك وزير الثقافة العتيد الفنان فاروق حسني واللواء محمد عبد السلام محجوب وزير التنمية المحلية آنذاك…
لم يكن مبعث بهجتنا أننا افتتحنا مكتبة جديدة في منظومة مكتبات مصر العامة (مبارك آنذاك) ولكن أيضا لما وجدنا أن إنشاء هذه المكتبة بفضل الرؤية المستنيرة للمحافظ المثقف محمد سيد شعراوي، كان أهم ما صاحب هذا اليوم أن اتجه المحافظ المثقف لإحياء دار أوبرا دمنهور القديم والذي كان مغلقا منذ سنين طويلة. ولكن كان أيضا ما رأيناه من نظافة المدينة… قامت المديرة الممتازة الدكتورة عبير قاسم وهي منتدبة من هيئة التدريس بجامعة دمنهور وقدمت لنا المباني الثلاثة التي تتكون منها المكتبة.
– المبنى الرئيسي يضم خمس قاعات للاطلاع والإنترنت وقاعتين للتدريب ومعملان لتدريب الحاسب الآلي.
– مبنى الأنشطة: يضم 14 برجولة تشمل معملين للحاسب الآلي مجهزين بالشاشات التفاعلية، وآخرين للغات مجهزين بأحدث الوسائل السمعية، وأربع قاعات للأنشطة الفنية المختلفة من رسم وموسيقى وأشغال يدوية، بالإضافة إلى قاعات أخرى لقسم العلوم والتكنولوجيا وقاعة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة.
– مبنى المؤتمرات: يضم قاعتين لعقد الندوات واللقاءات وورش العمل المختلفة متصلتان داخليا والمبنى مزود بخدمة الفيديو كونفرس.
أما حديقة المكتبة فهي تلك المساحة العظيمة الخضراء التي يتوسطها المسرح الروماني فضلا عن ركن خاص بالمعارض حيث يقام سنويا معرض دمنهور السنوي للكتاب بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب وأنشطة مكتبة دمنهور الثقافية على مدار العام بدءا من حملة بعنوان «اقرأ فكر لمستقبل أفضل» تجوب مدن ومراكز محافظة البحيرة إلى البرامج الأخرى المهتمة بتنمية المشاركة المجتمعية وبالتراث الأثري للمدينة القديمة التي تعتبر ثاني أقدم مدينة في العالم بعد دمشق والعهدة على الراوي الدكتور مصطفى الفقي ابن البحيرة في مذكراته الصادرة أخيرا.
ولدمنهور تاريخ عظيم في مقاومة الحملة الفرنسية عام 1798 وفيها ظهر رجل جاء شبيه بالمهدي الذي ظهر في السودان بعد ذلك ولكن هذا الرجل جاء من درنة في ليبيا واستطاع ان يجمع حوله آلاف الأنصار وبدأ حملة كبيرة في مقاومة الفرنسيين ودارت بين الجانبين معارك طاحنة اشتهرت بممارسات الفرنسيين والفظائع التي ارتكبوها من نهب وقتل بالسيوف للذين لم يخضعوا لهم وقاوموا… وحسبما جاء في كتاب الرافعي ص 67 «تاريخ الحركة القومية في مصر» الجزء الثاني قال الضابط لفيفر في رسالة إلى الجنرال دوجا في 10 مايو 1799 «لقد حاصرنا دمنهور وأحرقنا ونهبنا واستولى جنودنا على غنائم وأسلاب عظيمة» هذا ما قاله من جاءوا لينشروا الحرية ويبشروا برسالة الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والإخاء…
كانت مكتبة دمنهور ثاني مكتبات مصر العامة التي بادرت بافتتاح مكتبة فرعية في «كفر الدوار» تضم معرضا سنويا للكتاب وأطلقت حملات ثقافية وتنظيم معارض للفن التشكيلي وعروض للفنون الشعبية والغناء.. وغيرها وغيرها لتكون مكتبة العام بين مكتبات منظومة مكتبات مصر العامة في عام 2019 وتحصل على اعتماد منظمة اليونسكو لتكون هي المركز الوحيد بمحافظة البحيرة للاختبار والتدريب على برنامج الرخصة الدولية للحاسب الآلي ICDL.
كان افتتاح مكتبة دمنهور يوم 7 مايو 2009 يوما بهيجا ومازالت تقيم من الأنشطة ما يجعل أياما كثيرة من أيام دمنهور أياما بهيجة أيضا.
تحية لمكتبة دمنهور التي نعتز بها وندعو لها بالتوفيق من أجل المزيد وتحية لمديرها الأستاذ أحمد صبري الهواشي ولجميع العاملين بها.
منارتان جديدتان على بحار مصر
هاتان المنارتان أي المكتبتان ستظهران قريبا إن شاء الله على البحرين، إحداهما على البحر الأبيض وهي مكتبة عزبة البرج والثانية على البحر الأحمر وهي مكتبة القصير… وكلا المكتبتان لهما في التاريخ شأن كبير… الأولى وهي الواقعة على مصب النهر فرع دمياط… أي على بوغاز دمياط.. الذي شهد وقائع تاريخية وحربية هائلة… خاصة أيام الحملات الصليبية على مصر وتعرضت فيها مدينة دمياط وجيشها لفظائع الاحتلال أيام الحروب الصليبية ولكن الشعب ما لبث أن قاوم وما لبث الاحتلال أن اضطر مرغما على الرحيل. وتعرضت القصير على البحر الأحمر أيضا لرزايا الاحتلال والغزو خاصة أثناء الحملة الفرنسية ولكنها ما لبثت أن هبت للمقاومة وجاء إخوة عرب عبروا البحر الأحمر ونزلوا للمشاركة في مقاومة الاحتلال الذي اضطر أيضا للرحيل… ولقد كانت القصير أهم بلد وأهم ميناء على البحر الأحمر آنذاك.
بدأ مشروع إقامة مكتبة بعزبة البرج على يد المحافظ المثقف العظيم الدكتور محمد فتحي البرادعي محافظ دمياط العتيد الذي اختار الموقع على النيل قرب المصب وهو الذي قدم رسومات المكتبة المعمارية مستوحاة من البيئة على شكل سفينة.. ثم توقف المشروع بعد أحداث يناير 2011 إلى أن جاء إحياؤه على يد محافظ مثقف آخر في شخص الدكتورة منال عوض. واليوم فإننا نستعد لافتتاح المكتبة التي ستكون بإذن الله محاطة بحديقة تبنت إقامتها الأمم المتحدة. أما المكتبة الثانية فهي في المدينة التاريخية القصير على البحر الأحمر… بعد أن طلبنا من محافظ مثقف آخر اللواء أحمد عبد الله محافظ البحر الأحمر الأسبق وقد طلبت إليه إنشاء مكتبة عامة في هذه المدينة التاريخية الهامة فاستجاب وشرع على الفور في تدبير المكان وسارت العجلة وبعد عامين أضحت هناك مكتبة بالمدينة التاريخية على البحر الأحمر وهي على قيد الافتتاح الآن رغم شح الإمكانات… وما إلى ذلك. يهيئ الله لنا في مكتبة مصر العامة المحافظ المثقف الذي يقدر دور المكتبة في المجتمع بالتوازي مع المحافظ المثقف يقوم السفير رضا الطايفي مدير صندوق مكتبات مصر العامة ومساعده الأستاذ أحمد أمان منسق مكتبات مصر العامة بعمل جبار لتهيئة الأجهزة والمقتنيات من الكتب وغيرها لتكون هاتان المكتبتان جاهزتين للافتتاح في أي وقت فيزداد عدد مكتبات منظومة مكتبات مصر العامة إلى واحد وعشرين مكتبة… وهكذا تعيد مكتبة مصر العامة عهد مكتبات البلدية الذي شهدته مصر من قبل والتي كانت منتشرة في عدد كبير من محافظات مصر وقرأ فيها من أصبحوا بعد ذلك كتابا وعلماءً كبار مثل أنيس منصور في المنصورة وعباس الطرابيلي في دمياط ومفيد فوزي في بني سويف وغيرهم الذين يعملون من أجل تحقيق حلم مصري جميل «مكتبة عامة لكل مائة ألف مواطن في مصر»
مكتبة الإسماعيلية
أكتب اليوم عن مكتبة مصر العامة بالإسماعيلية التي افتتحت يوم 24 يونيو 2010… ويثير الحديث عن المكتبة في هذه المدينة التي شهدت من أحداث التاريخ الكثير والمثير… ما يلح عليّ في أن أعطي لمحة تاريخية عن المدينة العتيدة.
كانت الإسماعيلية في بؤرة التاريخ المصري الحديث في مشروع شق قناة السويس وما جرّته القناة من أحداث كان أخطرها الحروب التي شهدت الإسماعيلية جانبا هاما فيها.
كانت البداية في يوم 18 نوفمبر 1869… حيث كان افتتاح القناة بمدينة بورسعيد يوم 17 نوفمبر لتنتقل الاحتفالات بعد ذلك في اليوم التالي إلى الإسماعيلية… في احتفال مسرحي كبير، سمي آنذاك «الباللو». لم يمر عقد أو بعض عقد من الزمان إلا لتكون الإسماعيلية هي النقطة التي تتجمع فيها القوات البريطانية لتبدأ غزوها لمصر من الإسماعيلية (نفيشة) بموافقة ومباركة الخديوي توفيق وكان ذلك في شهر أغسطس 1882.
ثم جاء قرار مصر بإلغاء معاهدة 1936 التي كانت القوات البريطانية لمصر تستمد شرعية وجودها منها وبإلغاء هذه المعاهدة في 8 أكتوبر 1951 انتفت عن هذه القوات شرعية وجودها بمنطقة القناة وبالتالي انطلاق حركة المقاومة التي كانت الإسماعيلية والسويس هما المدينتين الرئيستين اللتين جرت فيهما أحداث المقاومة والتي كان من أهمها مواقع العدوان البريطاني الغاشم على ضباط وجنود الشرطة وتدمير محافظة الإسماعيلية واستشهاد وجرح ما لا يقل عن خمسين من ضباط الشرطة وجنودها نتيجة إصرارهم على عدم تسليم مبنى المحافظة والاستبسال في المقاومة، وثمانين جريحا على الأقل وأسر حوالي مائتين.
كانت المقاومة الباسلة لرجال الشرطة يوم 25 يناير 1952 هو الحدث الذي جعل من هذا اليوم عيدا وطنيا هو عيد الشرطة.
لم تمر أربعة أعوام حتى جاء تأميم شركة قناة السويس يوم 26 يوليو 1956، وهو الحدث الكبير الذي جاء في أعقابه العدوان الثلاثي على مصر (انجلترا، فرنسا، إسرائيل) عام 1956 والذي جاء في بداية عملي ببعثة مصر لدى الأمم المتحدة مما أتاح لي أن أشهد المعركة الدبلوماسية التي دارت في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والتحرك الدولي العارم الذي تمثل في قرارات الأمم المتحدة التاريخية عام 1956(مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة) بما اضطر انجلترا وفرنسا إلى الانسحاب في ديسمبر 56 وانسحاب اسرائيل من سيناء في مارس 57 وإذا كان ذلك قد جرى في الخمسينات فقد جاءت الستينات بعدوان 67 وتعطل الملاحة في قناة السويس لتفتح بعد ذلك بعد حرب أكتوبر المجيدة التي فتحت الطريق إلى علاقات السلام.
وفي العقد التالي أي عقد الثمانينات كنت سفيرا بواشنطن لم أكن أتصور وأنا في خضم هذه الأحداث أنني بعد ثلاثين عاما سأكتب بمناسبة افتتاح واحدة من مكتبات مصر العامة في مدينة الإسماعيلية.
اعتذر للقراء عن هذا الاستطراد التاريخي ونعود إلى افتتاح المكتبة الذي جرى يوم 24 يونيو 2010 بحضور السيدة الفاضلة سوزان مبارك، وأذكر أن هذا الاحتفال جرى على غير العادة في المساء… حيث خصص النهار لانطلاق مهرجان القراءة للجميع بالإسماعيلية. كان هناك أيضا المحافظ المثقف اللواء أ.ح. عبد الجليل الفخراني محافظ الإسماعيلية والذي كان له دور هام في إنشاء المكتبة.
ومنذ افتتاحها تتمتع مكتبة الإسماعيلية برعاية السادة المحافظين الذين تناوبوا على رئاسة محافظة الإسماعيلية باعتبار أن المحافظ هو رئيس مجلس أمناء المكتبة
تطورت مكتبة مصر العامة بالإسماعيلية عبر الأعوام العشر التي مضت على إنشائها… وأصبح لديها مكتبة متنقلة تذهب إلى مدن المحافظة… كما تقوم مديرتها صاحبة الهمة العالية الأستاذة أمل رجب بدور رائع في إدارتها وتنميتها والتي تهتم ليس فقط بتنمية القراءة والكتابة ولكن أيضا بالجانب الفني الذي ينمي الوجدان… ولديها جماعات في الفن والتمثيل والموسيقى كثيرا ما نلجأ إليها لإحياء ما نقيمه من احتفالات في مكتبات مصر العامة.
تحية للسيد اللواء أ.ح. شريف بشارة، محافظ الإسماعيلية الذي بدعمه تعمل مكتبة مصر العامة بالإسماعيلية على تحقيق حلمنا بإنشاء فرع للمكتبة في الجانب الشرقي «القنطرة شرق» سيكون أول وجود لمكتبة مصر العامة على أرض سيناء الحبيبة…
ومن حسن الحظ أنني أكتب هذه السطور بالتزامن مع صدور قرار السيد المحافظ اللواء أ.ح. شريف بشارة بتخصيص مبنى في القنطرة شرق ليكون أول فرع لمكتبة مصر العامة بالإسماعيلية. كما أشير أيضا باعتزاز إلى المكتبة المتنقلة التي جهزتها مكتبة مصر العامة بالإسماعيلية لخدمة المواطنين بالذهاب إليهم.
تحياتي وتقديري للسيد المحافظ أ.ح. شريف بشارة والمهندس أحمد عصام نائب المحافظ والأستاذة أمل مدير المكتبة القديرة وكل العاملين بها
مكتبة الزقازيق
كانت مكتبة الإسماعيلية هي آخر مكتبة تم افتتاحها في عام 2010، ومع بدء العام التالي 2011، جاءت أحداث فاصلة في تاريخ مصر وشهدت فيها نهاية حقبة الرئيس السابق حسني مبارك وبدء فترة تاريخية جديدة توجتها انتخابات رئاسية ثم جاءت ثورة 30 يونيو 2013 التي يجرى الاحتفال بها سنويا وانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية في ضوء دستور جديد وانتخاب مجلس نواب جديد.
كان هدفنا في هذه المرحلة هو العمل على الحفاظ على المكتبة ودورها… صحيح أن اسم المكتبة تغير من اسم مكتبة مبارك العامة ليصبح مكتبة مصر العامة وبهذا الاسم الجديد تم الحفاظ على اسم المكتبة باللغة الإنجليزية التي عرفت به MPL وواصلت المكتبة مسيرتها… وتعاون معنا وزراء الثقافة الذين شغلوا هذا المنصب في هذه الفترة وأغلبهم كان من شخصيات تعرف دور المكتبة الثقافي وأخص هنا بالذكر الدكتور جابر عصفور والدكتور محمد صابر عرب.
وفي عام 2017 اعتبرت مؤسسة برتلسمان أنها قد أدت دورها وأن المكتبة قد قامت واستقرت وصدر قرار جمهوري بتنظيم مسيرتها.
كان صندوق مكتبات مصر العامة في بداية عهده وقد كان السفير عمر الفاروق حسن هو أول مدير له وبدأ الصندوق في التواصل مع المحافظات التي سبق أن عبرت عن رغبها في إنشاء مكتبة إقليمية وتتمثل في محافظتي الشرقية والقليوبية لإقامة مكتبتين في كل من الزقازيق وبنها وقد حصلت المكتبتان على دعم من الصندوق آنذاك.
تم افتتاح مكتبة الزقازيق يوم 26/9/2012 وحضر هذا الافتتاح بطبيعة الحال محافظ الشرقية المستشار حسن النجار، كما حضرته ومعي السفير عمر الفاروق مدير صندوق مكتبات مصر العامة السابق والسيد محمد حلمي منسق مكتبات مصر العامة آنذاك.
الزقازيق هي عاصمة الشرقية… ومحافظة الشرقية محافظة هامة في مصر فضلا عن أنها المحافظة الأولى في الدلتا التي توقفت فيها العائلة المقدسة بعد توقفها في منطقة الفرما بشمال سيناء.
ومنطقة تل بسطة بالشرقية تعتبر منطقة أثرية هامة وقد جرى أخيرا إطلاق مشروع تطوير هذه المنطقة بما في ذلك تطوير العرض المتحفي بها واعتقد أن منطقة تل بسطا وصان الحجر بالشرقية هما أهم المناطق الأثرية في منطقة الدلتا ولا تقتصر آثار الشرقية على تل بسطا ورحلة العائلة المقدسة ويجري حاليا تطوير هذه المنطقة الأثرية الهامة..
ولا تقتصر الأهمية التاريخية لمحافظة الشرقية وعاصمتها الزقازيق على آثار تل بسطة وصان الحجر بل هناك أحداث التاريخ الحديث… ولعل أهمها ما اتصل بالغزو البريطاني لمصر في أواخر القرن التاسع عشر وقد شمل الغزو البريطاني مواقع القوات المصرية التي كانت موالية للزعيم أحمد عرابي في التل الكبير ثم الزقازيق… ومنها إلى القاهرة واحتلال قلعة محمد علي يوم 13 سبتمبر عام 1882.
كانت الزقازيق أيضا محطة هامة في تجنيد العمال المصريين الذين شقوا قناة السويس بسواعدهم… كانت الزقازيق في الشرقية… كما كانت دمياط في شمال شرق الدلتا أقرب المواقع التي جرى فيها الحفر في خمسينات وستينات القرن التاسع عشر.
أما في خمسينات القرن العشرين فقد شهدت الشرقية جانبا من الأعمال الفدائية في مقاومة الاحتلال البريطاني قبيل وبعد إلغاء معاهدة 1936 في 8 أكتوبر 1951… خاصة وأن عدداً من القوات البريطانية كان يتمركز في منطقة القناة المجاورة لمحافظة الشرقية… علينا أن نتذكر كيف كانت هذه المنطقة قبل شق القناة فلقد كان الاتصال مباشرا بين منطقة شمال سيناء وبين الدلتا المصرية.
تحتل مكتبة مصر العامة بالزقازيق موقعا هاما في منظومة مكتبات مصر العامة.. لم تمر أكثر من خمسة أعوام حتى وقع الاختيار على مكتبة الزقازيق لتكون مكتبة العام في عام 2017. كما أصبحت مكتبة الزقازيق ضمن المكتبات القلائل في مكتبات مصر العامة التي أنشأت مكتبة فرعية لها في مدينة فاقوس وتم افتتاح هذه المكتبة يوم 18 نوفمبر 2020 بواسطة محافظ الشرقية الدكتور ممدوح غراب، ومثل مكتبة مصر العامة السفير رضا الطايفي مدير صندوق مكتبات مصر العامة وعضو مجلس إدارة المكتبة الرئيسية.
مكتبة الزقازيق تتكون من دور أرضي وأربعة أدوار علوية تشتمل علي قاعة للمؤتمرات (مسرح) وقاعات اطلاع خاصة بالأطفال والشباب والكبار ومعامل للغات ومعامل حاسب آلي ومعمل للعلوم وقاعة للموسيقي وقاعة للمعارض الفنية وقاعات للتدريب وقاعة للتراث وقاعة لذوي الاحتياجات الخاصة وكافيتريا وحديقة للأطفال. إن افتتاح فرع لمكتبة الزقازيق في مدينة فاقوس هو بلا شك إنجاز هام… ونأمل أن يواصل السيد محافظ الشرقية الدكتور ممدوح غراب اهتمامه بالبعد الثقافي في محافظته متمثلا في العمل على افتتاح قرع ثان بالمحافظة في الموقع والمدينة التي يراها الأنسب.. وستكون مكتبة مصر العامة على استعداد تام للتعاون مع المحافظة في إنجاز هذا الفرع ودعمه كما كان الحال في الفرع الأول بفاقوس.
مكتبة بنها
بنها عاصمة محافظة القليوبية وهي تأتي بعد مكتبة الزقازيق الواقعة شمال القاهرة ويعرفها كل الذين كانوا يستخدمون الطريق الزراعي الذاهب من القاهرة إلى المنصورة عاصمة الدقهلية ثم دمياط… وكم أخذت شخصيا هذا الطريق في طريقي إلى دمياط… وبمجرد أن أتجاوز مدينة بنها أتوقف في مدينة كفر شكر المشهورة بمنتجاتها من البرتقال وغيرها من الفواكه باختلاف مواسمها…
وتشتهر مدينة بنها بحدائقها الخلابة التي جذبت عباس باشا حفيد مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا… فأنشأ قصرا بها أقام به إلى أن تم اغتياله في هذا القصر وانتقل الحكم إلى سعيد باشا صاحب الدور الهام في إعطاء امتياز قناة السويس لصديقه فيرديناند دي ليبسبس.
أقيمت مدينة بنها على أنقاض منطقة أثرية تعرف بتل أتريب ويذهب بعض علماء المصريات إلى أن تاريخ هذه المنطقة يرجع إلي الأسرة الرابعة التي أسسها الملك سنفرو حوالي 2613 قبل الميلاد.
وقد اختفت مدينة أتريب تحت الزراعات والمباني الأسمنتية للأسف ومثلها في ذلك مثل العديد من آثار مصر التي تم البناء عليها عشوائيا. ولأن بنها مدينة الورود والزهور والفاكهة كان طبيعيا أن تنتشر بها المناحل وتزدهر بها صناعة العسل. أقيمت المكتبة على مساحة من الأرض تبلغ 1550 م2 في منطقة متميزة من المدينة وتم افتتاحها تجريبيا عام 2007 ورسميا 24/2/2013 بواسطة وزير الثقافة آنذاك الدكتور محمد صابر عرب والدكتور عادل زايد محافظ القليوبية وحضر معي أول مدير لصندوق مكتبات مصر العامة السفير عمر الفاروق حسن.
تتكون المكتبة من أربعة طوابق وتضم قاعات للكبار والصغار وتقدم الخدمات المعروفة التي تتميز بها مكتبات مصر العامة وأهمها تشجيع المكتبة لروادها على استعارة ما بها من مقتنيات… وقد أصبحت المكتبة منذ إنشائها مقصدا ثقافيا معروفا بالمدينة تخدم أهل القليوبية وطلبة جامعة بنها ويتردد على المكتبة أبناء المجتمع القليوبي من كبار وصغار. وقد أعدت المكتبة أتوبيس يستخدم كمكتبة متنقلة في المحافظة وكانت مكتبة مصر العامة في بنها من أولى مكتبات المنظومة التي أنشأت مكتبة متنقلة.
تقدم المكتبة العديد من الأنشطة والدورات التدريبية لجميع الفئات العمرية ومنها دورات في الحاسب الآلي، تعليم الموسيقى، تعليم الفنون التشكيلية، تعليم الرسوم الكاريكاتورية، الحلي والإكسسوار، الكروشيه، التمثيل المسرحي، الشطرنج، ودورات في تعليم الشعر وأسلوب الكتابة، ودورات في العلوم والتكنولوجيا. وتهتم المكتبة بتقديم دورات لذوي الاحتياجات الخاصة وأنشطة للأيتام.
تهتم المكتبة بخدمة المناطق المحرومة من خلال انتقال المكتبة المتنقلة لتقديم الخدمات الثقافية والفنية ، ولا يقتصر دور المكتبة على تقديم الخدمات الثقافية والفنية ، بل تحرص أيضا على تنمية المهارات الحياتية والمهنية لكل الفئات المختلفة. تهتم المكتبة أيضا بتنمية مهارات الشباب فى مجالات العمل، بما يعد هدفا استراتيجيا لخطط التدريب بها لذا تم التعاون بينها وبين وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، من أجل تمكين الشباب فى سوق العمل و فتح آفاق جديدة لهم للعمل والحصول على فرص عمل متميزة وبما يعزز من قدراتهم فى الالتحاق بسوق العمل وتم تدريب أكثر من 300 مستفيد وإعدادهم لسوق العمل تتميز المكتبة بالمساهمة في التنمية المستدامة، والمشاركة المجتمعية مع المؤسسات المختلفة وقادة الفكر والثقافة في تنمية المجتمع والوصول بالخدمات إلى أعلى مستوى من الجودة والتميز. كانت مكتبة الإسماعيلية التي كتبت عنها في حلقة سابقة التي تم افتتاحها بحضور السيدة سوزان مبارك يوم 24/6/2010 هي المكتبة الأخيرة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ليبدأ العقد الثاني بأحداث يناير التي شهدت انتهاء حقبة الرئيس الراحل مبارك… إلا أن مكتبة مصر العامة واصلت مسيرتها وصمدت أمام العواصف التي شهدتها مصر في الأعوام الثلاثة الأولى من العقد الثاني، كما تواصل التعاون بين مكتبة مصر العامة ومحافظة القليوبية وتم الانتهاء من تشييد وتجهيز مكتبة مصر العامة ببنها. مكتبة بنها هي المكتبة الرابعة في دلتا مصر بعد مكتبة المنصورة ودمنهور والزقازيق التي تحدثت عنها في الحلقة السابقة.
الأستاذ المهندس فتحي شهاب الدين
رئيس لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشورى
أطيب تحية،،
أكتب إليكم بمناسبة ما نشرته بعض الصحف أخيرا عن انتقادات جرت في لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشورى أثناء مناقشة ميزانية وصندوق مكتبات مصر العامة…
وأود في البداية أن أعرب لكم عن شكري لكم لقراركم بالشطب من محضر الجلسة لبعض ما ورد من عبارات أثناء المناقشات…
إلا أن ذلك في حد ذاته ما كان ليدفعني لأن أكتب لكم واقتطع من وقتكم، ولكنني وجدت أن ثمة مناسبة لأن أثير معكم قضية المكتبات العامة في مصر وهو موضوع لا يأخذ الاهتمام الذي يستحقه رغم أهميته فيما تسعى إليه مصر من تقدم في كافة المجالات التي تخدمها المكتبات العامة شأنها في ذلك شأن ما هو حاصل في بلاد العالم الأخرى.
لقد أتيح لي بحكم عملي في الخارج أن أرى مدى اهتمام الدولة والمجتمع بالمكتبات العامة وكيف أن الدولة تخصص الميزانيات التي تكفل نشر المكتبات العامة في كل ركن من أركان المدن بل وفي القرى الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وكيف أن أهل الخير يتبرعون بعشرات بل ومئات الملايين من الدولارات لدعم المكتبات العامة باهتمام كبير على المستويين الحكومي والأهلي… وإذا جاءت المناسبة وزرتم مدينة نيويورك على سبيل المثال ستجدون مكتبة نيويورك العامة تحتل أهم وأجمل موقع في المدينة على الشارع الخامس وشارع 242 وعندما تزور هذه المكتبة سينشرح صدرك بلا جدال عندما تجد الشباب وقد أخدوا أماكنهم أمام شاشات الحاسوبات وستجد في مقابل هذه المكتبة العتيدة فرعا لها في الشارع الخامس وهو بذاته مكتبة عامة كبيرة، ثم ستجد بعد ذلك فروعا أخرى في كل ركن من أركان تلك الجزيرة العتيدة – جزيرة مانهاتن التي يبلغ عدد المكتبات الفرعية فيها حوالي خمسة وستين مكتبة فرعية… وجزيرة مانهاتن ما هي إلا جزء من مدينة نيويورك.
ولا يقتصر هذا الاهتمام على مدينة مثل نيويورك ولكنك ستجده في كل بقعة في الولايات المتحدة، ولكن الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة بل ستجده أيضا في البلاد الأخرى التي حققت تقدما علميا وثقافيا كان هو السند لتقدمها الاقتصادي والاجتماعي… وستجدون مرفقا مع هذا الخطاب بحثا عن عدد المكتبات العامة في كل دولة بالمقارنة لعدد السكان وستجدون أن كلما تقدمت الدولة كلما ازداد عدد المكتبات العامة بها وثمة حقيقة صادمة تتمثل في أن مصر تقع في ذيل هذه القائمة، مقارنة ببلاد مثل الهند والصين التي يوجد فيهما مكتبة عامة لكل ستة وعشرين ألف مواطن وليست دولاً مثل السويد التي توجد فيها مكتبة عامة لكل أربعة آلاف وخمسمائة مواطن أو اسرائيل التي بها مكتبة عامة لكل ثمانية آلاف وثلاثمائة مواطن… فإنك بالتأكيد ستنزعج عندما تجد أن النسبة في مصر هي مكتبة عامة لكل مليون مواطن وثمانمائة ألف مواطن…
لعل هذه الحالة كانت سببا في أنني وجدت نفسي بعد عودتي مباشرة من رحلة العمل في الخارج مستجيبا للدعوة التي وجهت لي من أجل إقامة مكتبة عامة تكون نموذجا للمكتبات العامة وتقام بالتعاون مع مؤسسة أهلية…
ومن خلال هذا الجهد المشترك أمكن تحويل فيلا ظلت مهجورة لأكثر من عشرين عاما إلى مكتبة عامة رائدة على أحدث طراز، تحمل الجانب الألماني نفقات تطوير هذا المبنى وتجهيزه بالكامل، ودفع مرتبات العاملين فيه لثلاثة أعوام، وفي أول اجتماع لنا تم الاتفاق على أن أعضاء مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة يقومون بهذا العمل على سبيل التطوع ودون أي مقابل، ودون أية بدلات لحضور جلسات أو تخصيص سيارة لرئيس مجلس الإدارة أو لمدير المكتبة…
تم افتتاح هذه المكتبة في مارس 1995 وسرعان ما أصبحت منارة على النيل… ومركزا ثقافيا جاذبا للشباب والأطفال والكبار… حاضر فيه العديد من الشخصيات المصرية والأجنبية مثل جيم ولفونسون رئيس البنك الدولي وأحمد زويل وفاروق الباز وريتشارد فورد وغيرهم كثيرون…
كان طبيعيا أن نفكر أن تمتد هذه الخدمة الثقافية ويكون للمكتبة فروع في القاهرة، وخاصة في المناطق الشعبية فأقمنا هذا الفرع الذي استطاع رغم صغره أن يكون بمثابة منارة ثقافية في منطقة الزيتون، ونحن الآن بصدد إنشاء فرع في منطقة الزاوية الحمراء، ولقد أوشك على الافتتاح ومن المقدر أن تكون مكتبة الزاوية أكبر مكتبة عامة في مصر.
وسواء بالنسبة للمكتبة العامة وفرع الزيتون وفرع الزاوية الحمراء فلقد كان هناك شراكة بالتمويل من دول أجنبية، وقد حرصنا على ان تكون الإدارة بالكامل للجانب المصري…
لم نكن بطبيعة الحال قادرين على إنشاء فروع في الأقاليم… ولذلك كان علينا أن نستخدم خيالنا في إيجاد الوسيلة لإتاحة مثل هذه المكتبات في المحافظات… ووجدنا في قانون الملكية الفكرية ما يتيح لنا ذلك… بحيث يقتصر دور المكتبة العامة على اعطاء التوصيف والمعايير اللازمة لإنشاء المكتبة الإقليمية والفلسفة التي تقوم عليها لاجتذاب الجمهور وتقديم الخبرة بينما تقوم المحافظة بعملية البناء والتجهيز… إلا أننا أيضا وجدنا أنه من المهم أن نجد طريقا لتقديم الدعم المادي فاتفقنا مع وزارة الاتصالات على أن تقدم لهذه المكتبات الأجهزة اللازمة لتزويدها بتكنولوجيا المعلومات كما جاءت فكرة إنشاء صندوق لتقديم الدعم المادي لهذه المكتبات وذلك في حدود الممكن… وكانت صاحبة تلك الفكرة هي وزيرة التعاون الدولي آنذاك الوزيرة فايزة أبو النجا…
كان قد مر على إنشاء مكتبة مصر العامة خمسة أعوام وأصبحت بالفعل منارة على النيل، فدعونا السادة المحافظين واقترحنا عليهم أن يأخذوا المبادرة بإنشاء مكتبات عامة في محافظاتهم، وأن تكون إدارة هذه المكتبات تحت رئاستهم… أو ادارتهم المباشرة وإننا سنزودهم بالمعايير والمواصفات والخبرة التي سنقدمها لهم خطوة بخطوة…
كما اتفقنا مع وزارة الاتصالات أن اقدم لهذه المكتبات كل ما يلزمها من وسائل تكنولوجيا المعلومات مثل الحاسوبات…. الخ
كما أن صندوق مكتبات مصر العامة سيكون مستعدا لتقديم الدعم المادي في حدود الممكن إلا أن العبء المالي الأساسي سيكون على عاتق المحافظات…
لم يمر سوى عامين على اطلاق هذه الفكرة عندما دعونا السادة المحافظين في يونيو عام 2000 حتى جاء افتتاح اول مكتبة إقليمية وكان ذلك في الوادي الجديد.. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها أهل الوادي الجديد مكتبة عامة… ثم توالى افتتاح المكتبات الإقليمية.. في بورسعيد حيث أخذت المكتبة العامة موقعا فريدا على البحر ثم دمياط في موقع ممتاز على النيل… وجاء المهندس محمد فتحي البرادعي بعد ذلك ليقدم للمكتبة مركزا ثقافيا على النيل هو في الأصل كوبري دمياط المعدني… وقد حصل هذا العمل على جائزة منظمة المدن العربية للتراث المعماري، ثم المنصورة التي أتاحت لأهل المنصورة أن يشاهدوا النسخة الأصلية من كتاب وصف مصر…
ثم مكتبة دمنهور، وهكذا توالت المكتبات العامة في الأقصر والغردقة… وغيرها
ومنذ عدة شهور تم افتتاح مكتبة الزقازيق وكان للسيد المحافظ محمد النجار فضل كبير في انشائها وأصبح لأهل هذه المدينة التاريخية مكتبة رائعة من أربعة أدوار، كما تم افتتاح مكتبة عامة أخرى في بنها على يد المحافظ دكتور عادل زايد… وجاري حاليا إنشاء مكتبة في المنيا وأخرى في مرسى مطروح.
وعندما تدخل واحدة من هذه المكتبات لا تجد فقط الشباب والكبار والأطفال وهم منكبون على القراءة والإطلاع سواء في الكتب أو في الحاسوبات ولكنك تجدهم أيضا منخرطين في دورات اللغات الأجنبية والحاسب الآلي وتحسين الخط العربي والوسائط المتعددة وغير ذلك من وسائل التعليم وصقل المهارات التي تستهدف تأهيلهم للتنافس في سوق العمل…
وبتوالي إنشاء هذه المكتبات كان من المهم أن يكون هناك أساس قانوني أو تشريعي ينظم وضع هذه المكتبات وأسلوب عملها, وقد تمثل ذلك في القرار الجمهوري رقم 49 لسنة 206 والذي عدل عام 2011 وتضمن إنشاء صندوق لدعم مكتبات مصر العامة.
وبعد… فإنني باسم مكتبة مصر العامة أدعوكم لزيارتها في أي وقت وفي أي يوم ترون باستثناء يوم الأجازة الأسبوعية وهي يوم الثلاثاء… مع من ترون من السادة أعضاء لجنة الثقافة والإعلام لمشاهدة هذه المكتبة على الطبيعة.
إن غايتي في كتابة هذا الخطاب تتمثل في التعبير عن أمل أن تتبنوا في لجنتكم ومن خلال موقعكم القيادي بها قضية المكتبات العامة في مصر.
واختم هذا الخطاب بأن أرجوكم مرة أخرى أن تحضروا لزيارة مكتبة مصر العامة وسيسعدنا أن تقوموا بتفقدها والتعرف على أسلوب عملها.
وانتهز هذه الفرصة لأعرب لكم عن خالص الشكر وفائق الاحترام،،،